عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا}
  
              

          ░2▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}[النور:27-29].
          (ش) هذه ثلاثُ آياتٍ ساقها الأصيليُّ وكريمة في روايتهما، وفي رواية أبي ذرٍّ: <قوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ...} إلى قوله: {وَمَا تَكْتُمُونَ}> وسبب نزولِ قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...} الآية ما ذكره عَدِيُّ بن ثابتٍ قال: جاءت امرأةٌ مِن الأنصار فقالت: يا رسول الله؛ إنِّي أكون في بيتي على حالٍ لا أحبُّ أن يراني عليها أَحَدٌ؛ والدٌ ولا وَلَدٌ، فيدخل عليَّ، وإنَّه لا يزال يدخل عليَّ رجلٌ مِن أهلي وأنا على تلك الحالة، فكيف أصنع؟ فنزلت هذه الآية.
          قوله: ({حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}) قال الثعلبيُّ: أي: تستأذنوا، قال ابن عَبَّاس: إِنَّما هو «تستأذنوا» ولكن أخطأ الكاتب، وكان أُبيٌّ وابن عَبَّاس والأعمش يقرؤونها كذلك: {حَتَّى تستأذِنُوا} وفي الآية تقديمٌ وتأخيرٌ؛ تقديره: حَتَّى تُسلِّموا على أهلها وتستأنسوا، وقال البَيْهَقيُّ: يحتمل أن يكون ذلك في القراءة الأولى، ثُمَّ نُسِخَت تلاوتُه معنًى، ولم يطَّلِع عليه ابن عَبَّاس ☻، والمراد بـ(الاستئناس) الاستئذان بِتَنَحْنُحٍ ونحوه عند الجمهور، وأخرج الطَّبَريُّ عن مجاهد: {حَتَّى تستأنسوا} تَتَنَحْنحوا أو تَنَخَّموا، وأخرج ابن أبي حاتمٍ بسند ضعيف مِن حديث أبي أيُّوب قال: قُلْت: يا رسول الله؛ هذا السلام، فما الاستئناس؟ قال: «يتكلَّم الرجل بتسبيحةٍ أو تكبيرةٍ ويتنحنح فَيُؤذِن أهلَ البيت»، وأخرج الطَّبَريُّ من طريق قتادة: الاستئناس هو الاستئذان ثلاثًا، فالأولى لِيُسْمِع، والثانية ليَتَأهَّبوا له، والثالثة إن شاؤوا أَذِنُوا له، وإن شاؤوا ردُّوا، و(الاستئناس) في اللُّغة: طَلَب الإيناس، وهو مِن الأُنس _بالضمِّ_ ضدِّ (الوَحْشَة)، وقال البَيْهَقيُّ: معنى {تَسْتَأنِسُوا} تَسْتَبْصروا؛ ليكون الدُّخول على بصيرةٍ، فلا يُصادف حالًا يَكْرَه صاحبُ المنزل أن يطَّلعوا عليها، وأخرج مِن طريق الفرَّاء قال: «الاستئناس» في كلام العرب معناه: انظروا مَن في الدَّار، وقال بعضهم: وحكى الطَّحَاويُّ: أنَّ «الاستئناس» في لغة اليَمَن الاستئذان، ثُمَّ قال: وجاء عن ابن عَبَّاس إنكارُ ذلك.
          قُلْت: هذا قتادة قد فسَّر (الاستئناس) بـ(الاستئذان) كما ذكرناه الآن، فَقَصْدُ هذا القائل إظهارُ ما في قلبه مِن الحِقْد للحَنَفيَّة!
          قوله: ({ذَلِكُمْ}) أي: الاستئذان والتسليم ({خَيْرٌ لَكُم}) مِن تحيَّة الجاهليَّة والدُّمُور؛ وهو الدخول بغير إذن.
          قوله: ({تَذَكَّرُونَ}) أصله: (تَتَذكَّرون) فحُذِفَت إحدى التاءين.
          قوله: ({فَإِنَّ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا}) أي: في البيوت ({أَحَدًا}) مِن الآذِنِينَ؛ ({فَلَا تَدْخُلُوها}) فاصبِروا حَتَّى تجِدوا مَن يَأذنُ لكم، ويُحتمل: {فَإِنَّ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أحدًا} مِن أهلها ولكم فيها حاجةٌ؛ {فَلَا تَدْخُلُوها} إلَّا بإذن أهلِها.
          قوله: ({فَارْجِعُوا}) ولا تقفوا على / أبوابها ولا تُلازِمُوها.
          قوله: ({هُوَ}) أي: الرجوعُ ({أَزْكَى}) أي: أطْهَرُ وأصلح، فلمَّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصِّدِّيق ☺ : يا رسول الله؛ أرأيتَ الخاناتِ والمساكنَ في طُرُق الشام ليس فيها ساكنٌ؟ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةِ}[النور:29] بغير استئذان.
          قوله: ({فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ}) أي: منفعة لكم، واختلفوا في هذه البيوت ما هي؟ قال قتادة: هي الخانات والبيوت المبنيَّة للسابِلة يَأووا إليها ويُؤْوا أمتعتَهم فيها، وقال مجاهد: كانوا يضعون بطرق المدينة أقتابًا وأمتعةً في بيوتٍ ليس فيها أَحَدٌ، وكانت الطرقات إذ ذاك آمنةً، فأحلَّ لهم أن يدخلوها بغير إذنٍ، وعن مُحَمَّد ابن الحَنَفيَّة وأبيه عليٍّ ☻: هي بُيوتُ مكَّة، وقال الضَّحَّاك: هي الخِرْبة التي يأوي إليها المسافرُ في الصيف والشتاء، وقال عطاء: هي البيوت الخَرِبَة، وَالْمَتَاعُ: قضاء الحاجة فيها مِن البَول وغيره، وقال ابن زيد: هي بُيوتُ التُّجَّار وحوانيتُهم التي بالأسواق، وقال ابن جُرَيْج: هي جميعُ ما يكون مِن البيوت التي لا سَاكنَ فيها على العموم.
          (ص) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُؤُوسَهُنَّ، قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ. قَوْلُ اللهِ ╡ : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهْمَ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}[النور:30] وَقَالَ قَتَادَةُ: عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ.
          (ش) وَجْه ذِكْرِ هذا عَقيبَ ذِكْرِ الآيات الثلاث المذكورة الإشارة إلى أنَّ أصل مشروعيَّة الاستئذان الاحترازُ مِن وقوع النظر إلى ما لا يريد صاحبُ المنزل النظرَ إليه لو دخل بلا إذنٍ.
          ثُمَّ قوله: (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ...) إلى آخر ما ذكرناه كذا هو في رواية الكُشْميهَنيِّ، فالحسنُ استدلَّ بالآية المذكورة، وذكر البُخَاريُّ أَثَرَ قتادة تفسيرًا لها.
          و(سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ) هو أخو الحسن البَصْرِيِّ، تابعيُّ ثقةٌ، قال البُخَاريُّ: مات قبل الحسن البَصْرِيِّ.
          قوله: (قَالَ: اصْرِفْ) أي: قال الحسن البَصْرِيُّ لأخيه: اصرف بَصَرَك عنهنَّ.
          قوله: (قَوْلُ اللهِ ╡ ) ويُروى: <يقول الله تعالى> ذكره في مَعْرِض الاستدلال، ويجوز في (قول الله) [الرفع والنصب، أَمَّا الرفع فعلى أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا قولُ الله]... إلى آخره، وأَمَّا النصب فعلى تقدير: اقرأ قولَ الله ╡ .
          وأَثَر قتادة أخرجه ابن أبي حاتمٍ مِن طريق يزيد بن زُرَيْعٍ عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}[النور:30] قال: (عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُم).
          ووقع في روايةِ غيرِ الكُشْميهَنيِّ بعدَ قوله: (اصرف بصرك) : <وقول الله ╡ : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهْمَ...}> إلى آخره، وعلى هذه الرواية _وهي رواية الأكثرين_ تكونُ ترجمةً مستأنفةً.
          (ص) {وقُلْ لِلْمُؤْمناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}[النور:31].
          (ش) هذه أيضًا مِن تتمَّة استدلال الحَسَن بها، غير أنَّ أَثَر قتادة تخلَّل بينهما، كذا وقع للأكثرين، وسقط جميعُ ذلك مِن رواية النَّسَفِيِّ، فقال بعد قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الآيتين: <وقول الله ╡ : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهْمَ} الآية، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ}>.
          (ص) {خائِنَةَ الأعْيُنِ} مِنَ النَّظَرِ إلى ما نُهِيَ عَنْهُ.
          (ش) كذا وقع في رواية الأكثرين بِضَمِّ النون في قوله: (مَا نُهِيَ عَنْهُ) يعني: على صيغة المجهول، ووقع في رواية كريمة: <إلى ما نَهَى الله عنه> قال الله ╡ : {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}[غافر:19] وهي صفة لـ(النَّظْرة) أي: يعلم النَّظْرَة المُسْتَرِقة إلى ما لا يَحِلُّ، وروى ابن أبي حاتم مِن طريق ابن عَبَّاس في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} قال: هو الرجل ينظر إلى المرأة الحسناء تمرُّ به، أو يدخلُ بيتًا هي فيه، فإذا فُطِنَ به غَضَّ بصرَه، وقد عَلِمَ الله تعالى أنَّهُ يَودُّ أن لو اطَّلع على فَرْجِها، وإذا قَدِرَ عليها لو زنى بها، وقال الكَرْمانيُّ: وأَمَّا {خَائِنَةَ الْأَعْيُن} التي ذُكِرَت في الخصائص النبويَّة فهي الإشارةُ بالعين إلى مُباح مِن الضَّرْب ونحوه، لكن على خلاف ما يُظهره بالقول.
          (ص) وقال الزُّهْريُّ: النَّظَرُ / إلى اللَّائي لَمْ يَحِضْنَ مِنَ النِّساءِ، لا يَصْلُحُ النَّظَرُ إلى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يَشْتَهِي النظَرَ إلَيْهِ وإنْ كانَتْ صَغِيرَةً.
          (ش) كذا وقع في رواية الأكثرين، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <في النَّظَر إلى ما لا يَحِلُّ مِن النساء: لا يصلح...> إلى آخره، وفي روايته أيضًا: <النظر إليهنَّ> أي: إلى النساء، وأَمَّا الضمير الذي في قوله: (إِلَيْهِ) فَإِنَّهُ يرجع إلى شيء منهنَّ، ومنه أخذ ابن القاسم أنَّهُ لا يجوز للرجل أن يُغَسِّل الصغيرة الأجنبيَّة الميِّتة، خلافًا لأشهب، وهذا الأثرُ والذي بعده قد سقطا مِن رواية النَّسَفِيِّ.
          (ص) وَكَرِهَ عَطاءٌ النَّظَرَ إلى الجَوارِي الَّتِي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إلَّا أنْ يُرِيدَ أنْ يَشْتَرِيَ.
          (ش) (عَطَاءٌ) هو ابن أبي رَبَاح، ووصل أثرَه ابنُ أبي شَيْبَةَ من طريق الأوزاعيِّ قال: سئل عطاءٌ بن أبي رَبَاح عن الجواري اللَّاتي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ، فَكَرِه النظرَ إليهنَّ إلَّا لمن يريد أن يشتريَ.