عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من لم يسلم على من اقترف ذنبًا
  
              

          ░21▒ (ص) بَابُ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى مَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَلَمْ يَرُدَّ سَلَامَهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ تَوْبَتُهُ، وَإِلَى مَتَى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةُ الْعَاصِي؟
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان أمر مَن لا يُسلِّم على مَنِ اقترف؛ أي: على مَنِ اكتسب ذنبًا، هذا تفسير الأكثرين، وقال أبو عُبَيدة: الاقتراف: التهمة، هذا حكمٌ، وقوله: (وِإِلَى مَتَّى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةَ الْعَاصِي) حكمٌ آخر.
          فالحكم الأَوَّل فيه خلافٌ؛ فعند الجمهور: لا يُسلِّم على الفاسق ولا على المُبْتَدع، وقال النوويُّ: فإن اضطرَّ إلى السلام بأن خاف ترتُّب مفسدةٍ في دِينٍ أو دنيا إن لم يُسلِّم؛ سلَّم، وكذا قال ابن العربيِّ، وزاد: إنَّ السلام اسمٌ مِن أسماء الله تعالى فكأنَّه قال: الله رقيبٌ عليكم، وقال ابن وَهْبٍ: يجوز ابتداء السلام على كلِّ أحدٍ ولو كان كافرًا، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلْنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة:83] ورُدَّ عليه بأنَّ الدليل أعمُّ مِن المُدَّعى.
          والحكم الثاني: هو قوله: (وِإِلَى مَتَّى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةَ الْعَاصِي) أي: إلى متى تظهر صحَّة توبته، وأراد أنَّ مجرَّد التوبة لا تُوجِب الحكم بصحَّتها، لا بدَّ مِن مضيِّ مدَّةٍ يُعلَم فيها بالقرائن صحَّتها مِن ندامته على الفائت وإقباله على التدارك ونحوه، وقال ابن بَطَّالٍ: ليس في ذلك حدٌّ محدودٌ، ولكنَّ معناه أنَّهُ لا يتبيَّن توبته مِن ساعته ولا يومه حَتَّى يمرَّ عليه ما يدلُّ على ذلك، وقيل: يُسْتبرأ حالُه بسَنَةٍ، وقيل: بستَّة أشهر، وقيل: بخمسين يومًا، كما في قصَّة كعبٍ، ورُدَّ هذا بأنَّ النَّبِيَّ صلعم لم يَحدَّه بخمسين يومًا، وإِنَّما أُخِّر كلامُهم إلى أن أذِنَ الله ╡ فيه، وهي واقعةُ حالٍ لا عمومَ فيها، ويختلف حكمُ هذا باختلاف الجناية والجاني.
          (ص) وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ عَمْرٍو: لَا تُسَلِّمُوا عَلى شَرَبَةِ الخمْرِ.
          (ش) مطابقتُه للجزء الأَوَّل / للترجمة ظاهرةٌ.
          و(الشَّرَبَةُ) بفتحتين، جمع (شارب) وقال ابن التين: لم يجمعه اللغويُّون كذلك، وإِنَّما قالوا: «شارِب وشَرْبٌ» مثل: «صاحِبٍ وصَحْبٍ».
          قُلْت: عبد الله مِنَ الفصحاء، وأيُّ لغويٍّ يدانيه؟! وقد جاء هذا الجمع نحو (فَسَقه) في جمع (فاسق)، و(كَذَبَة) في جمع (كاذب).
          وهذا الأثرُ وصله البُخَاريُّ في «الأدب المفرد» مِن طريق حبَّان بن أبي جَبَلَة _بفتح الجيم والباء المُوَحَّدة_ عن عبد الله بن عَمْرو بن العاصي بلفظ: «لا تُسلِّموا على شرَّاب الخمر» وأخرج الطَّبَريُّ عن عليٍّ ☺ نحوه.