عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر}
  
              

          ░12▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}[المائدة:96].
          (ش) أي: هذا بابٌ في قوله ╡ : ({أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}) وهذا المقدار رواية الأكثرين، وفي رواية النَّسَفِيِّ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} وروى سعيد بن جُبَيرٍ وسعيد بن المُسَيَِّبِ عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} يعني: ما يُصاد منه طريًّا، {وَطَعَامُهُ} ما يتزوَّد منه مَليحا يابسًا.
          [قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ} أي: منفعةً وقوتًا لكم أيُّها المخاطبون، وانتصابه على أنَّهُ مفعولٌ له؛ أي: تمتيعًا لكم].
          قوله: {وَلِلْسَّيَارَةِ} جمع (سيَّارٍ)، وقال عِكْرِمَة: لمن كان بحضرة البحر وللسَّفر.
          (ص) وَقَالَ عُمَرُ ☺ : صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ، وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ.
          (ش) أي: قال عُمَر بن الخَطَّاب ☺ : (صَيْدُهُ) أي: صيد البحر (مَا اصْطِيدَ) أي: الذي اصطِيدَ، وطعام البحر (مَا رَمَى بِهِ) أي: ما قذفه.
          وهذا التعليق وصله عبدُ بن حُمَيدٍ مِن طريق عُمَر بن أبي سَلَمَةَ عن أبيه عن أبي هُرَيْرَة قال: لمَّا قدمتُ البحرين سألني أهلُها عمَّا قذف البحرُ فأمرتُهم أن يأكلوه، فلمّا قدمتُ على عمر ☺ ، فذكر قصَّته، قال: فقال عمر: قال الله ╡ في كتابه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}[المائدة:96] فصَيدُه ما صِيدَ، وطعامُه ما قذف به.
          (ص) وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ☺ : الطَّافِي حَلَالٌ.
          (ش) أي: / قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق ☺ .
          قوله: (الطَّافِي) هو الذي يموت في البحر ويعلو فوق الماء، ولا يرسب فيه، وهو مِن (طفا يطفو).
          وهذا التعليق أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ عن وكيعٍ عن سفيان عن عبد الملك بن أبي بشيرٍ عن عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاسٍ، قال: أشهد على أبي بكرٍ أنَّهُ قال: السمكةُ الطافيةُ على الماءِ حلالٌ، زاد الطَّحَاويُّ في «كتاب الصيد»: حلالٌ لمن أراد أكلَه، وقال أصحابنا الحَنَفيَّة: يُكره أكلُ الطافي، وقال مالكٌ والشَّافِعِيُّ وأحمد والظاهريَّة: لا بأس به؛ لإطلاق قوله صلعم : «البحر هو الطهور ماؤه والحلُّ ميتته» واحتجَّ أصحابنا بما رواه أبو داود وابن ماجه عن يحيى بن سُلَيمٍ عن إسماعيل بن أميَّة عن أبي الزُّبَير عن جابرٍ: أنَّ رسول الله صلعم قال: «ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه».
          فَإِنْ قُلْتَ: ضعَّف البَيْهَقيُّ هذا الحديثَ، وقال: يحيى بن سُلَيم كثيرُ الوهم سيِّئُ الحفظ، وقد رواه غيرُه موقوفًا.
          قُلْت: يحيى بن سُلَيم أخرج له الشيخان، فهو ثقةٌ، وزاد فيه الرفع، ونقل ابن القَطَّان في كتابه عن يحيى أنَّهُ ثقةٌ.
          فَإِنْ قُلْتَ: قال ابن الجوزيِّ: إسماعيل بن أميَّة متروكٌ.
          قُلْت: ليس كذلك؛ لأنَّه ظنَّ أنَّهُ إسماعيلُ بن أميَّة أبو الصلت الزارع، وهو متروك الحديث، وأَمَّا هذا فهو إسماعيل بن أميَّة القرشيُّ الأمويُّ، والذي ظنَّه ليس في طبقته.
          فَإِنْ قُلْتَ: قال أبو داود: رواه الثَّوْريُّ وأيُّوب وحمَّاد عن أبي الزُّبَير موقوفًا على جابرٍ، وقد أسند مِن وجهٍ ضعيفٍ عن ابن أبي ذئبٍ عن أبي الزُّبَير عن جابرٍ عن النَّبِيِّ صلعم قال: «ما اصطدتموه وهو حيٌّ فكلوه، وما وجدتم ميتًا طافيًا فلا تأكلوه» وقال التِّرْمِذيُّ: سألتُ مُحَمَّدَ بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: ليس بمحفوظٍ، وروى عن جابرٍ خلاف هذا، ولا أعرف لابن أبي ذئبٍ عن أبي الزُّبَير شيئًا.
          قُلْت: قولُ البُخَاريِّ: (لا أعرف لابن أبي ذئب عن أبي الزُّبَير شيئًا) على مذهبه في أنَّهُ يَشترِط لاتِّصال الإسناد المعنعن ثبوتَ السماع، [وقد أنكر مسلمٌ ذلك إنكارًا شديدًا، وزعم أنَّهُ قول مخترع، وأنَّه المتَّفق عليه أنَّهُ يكفي للاتصال إمكان اللقاء والسماع]، وابن أبي ذئب أدرك زمان أبي الزُّبَير بلا خلافٍ، وسماعُه منه ممكنٌ.
          فَإِنْ قُلْتَ: قال البَيْهَقيُّ: ورواه عبد العزيز بن عبد الله عن وهب بن كَيْسان عن جابرٍ مرفوعًا، وعبد العزيز ضعيفٌ لا يُحتجُّ به.
          قُلْت: أخرج الحاكم في «المستدرك» حديثًا عنه وصحَّح سنده، وأخرج حديثه هذا الطَّحَاويُّ في «أحكام القرآن» فقال: حَدَّثَنَا الربيع بن سليمان المراديُّ: حَدَّثَنَا أسد بن موسى: حَدَّثَنَا إسماعيل بن عَيَّاشٍ: حدثني عبد العزيز بن عبد الله عن وهب بن كَيْسان ونعيم بن عبد الله المُجمِر عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلعم قال: «ما جزر البحرُ فكُلْ، وما ألقى فكُلْ، وما وجدته طافيًا فوق الماء فلا تأكلْ».
          وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}[المائدة:3] عامٌّ خصَّ منه غير الطافي مِنَ السمك بالاتِّفاق، والطافي مُختَلَفٌ فيه، فبقيَ داخلًا في عموم الآية.
          (ص) وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ☺ : طَعَامُهُ مَيْتَتْهُ إلَّا مَا قَذِرْتَ مِنْها.
          (ش) أي: قال ابن عَبَّاسٍ في تفسير {وطعامه} مِن قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}[المائدة:96] (مَيْتَتْهُ) أي: ميتة البحر (إِلَّا مَا قَذِرْتَ مِنْهَا) أي: مِنَ الميتة.
          و(قَذِرْتَ) بكسر الذال المُعْجَمة وفتحِها.
          وتعليق ابن عَبَّاس هذا وصله الطَّبَريُّ مِن طريق أبي بَكْر بن حفصٍ عن عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاسٍ في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} قال: {وَطَعَامُهُ} ميتته.
          (ص) وَالجِرِّيُّ لا تَأْكُلُهُ اليَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ.
          (ش) هذا قول ابن عَبَّاسٍ أيضًا، ورواه ابن أبي شَيْبَةَ عن وكيعٍ عن الثَّوْريِّ به، وقال في روايةٍ: سألتُ ابنَ عَبَّاسٍ عن الجرِّيِّ، فقال: لا بأس به، إِنَّما تحرِّمه اليهودُ، ونحن نأكله.
          و(الْجَرِّيُّ) بفتح الجيم / وكسر الراء المشدَّدة وبالياء آخر الحروف المشدَّدة، وقال عياضٌ: وجاء فيه كسر الجيم أيضًا، وهو مِنَ السمك ما لا قِشرَ له، وقال عطاءٌ لمَّا سُئِلَ عن الجرِّيِّ قال: كُلْ كُلَّ ذَنَبٍ سمينٍ منه، وقال ابن التين: ويقال له أيضًا: الجرِّيث، وقال الأزهريُّ: «الجرِّيث» نوعٌ مِنَ السمك يُشبه الحيَّات، ويقال له أيضًا: المارْماهي، والسلَّور مثلُه، وقيل: هو سمكٌ عريض الوسط دقيقُ الطرفين.
          قُلْت: (الجريث) السمكةُ السَّوداء، و(المارْماهي) لفظٌ فارسيٌّ لأنَّ (مار) بالفارسيَّة الحيَّةُ، و(ماهي) هو السمك، والمضافُ إليه يتقدَّم على المضافِ في لغتهم.
          (ص) وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صلعم : كلُّ شَيْءٍ فِي البَحْرِ مَذْبُوحٌ.
          (ش) هذا التعليق لم يثبت في رواية أبي زيدٍ وابن السَّكَن والجرجانيِّ، وإِنَّما ثبت في رواية الأصيليِّ، وقال: <أبو شريحٍ> وهو وهمٌ، نبَّه على ذلك أبو عليٍّ الغسَّانيُّ، وقال مثلَه عياضٌ، وزاد: وهو شريح بن هانئٍ، أبو هانئٍ، والصواب أنَّهُ غيره، وهو شُرَيْحُ بن هانىء بن يزيد بن كعبٍ الحارثيُّ، جاهليٌّ إسلاميٌّ، يكنى أبا المِقدام، وأبوه هانئ بن يزيد له صحبةٌ، وأَمَّا ابنه شريحٌ فله إدراكٌ، ولم يثبت له سماعٌ ولا لقيٌّ، و(شُرَيحٌ) المذكور هنا هو الذي ذكره أبو عمر فافهم. وقال الجَيَّانيُّ: الحديث محفوظٌ لشُرَيحٍ لا لأبي شُرَيحٍ، وكذا ذكره البُخَاريُّ في «تاريخه» عن مُسَدَّدٍ: حَدَّثَنَا يحيى بن سعيدٍ عن ابن جُرَيْجٍ: أخبرني عَمْرٌو وأبو الزُّبَير [سمعا شريحًا، وقال أبو عمر: شُرَيح رجلٌ مِنَ الصحابة حجازيٌّ روى عنه أبو الزُّبَير] وعمرو بن دينار سمعاه يحدِّث عن أبي بكر الصدِّيق ☺ قال: كلُّ شيءٍ في البحر مذبوحٌ، ذبح الله لكم كلَّ دابَّةٍ خلقها في البحر، قال أبو الزُّبَير وعمرو بن دينارٍ: وكان شُرَيحٌ هذا قد أدرك النَّبِيَّ صلعم ، وقال أبو حاتمٍ: له صحبةٌ، وليس له في «البُخَاريٍّ» ذكرٌ إلَّا في هذا الموضع.
          (ص) وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأرَى أنْ يَذْبَحَهُ.
          (ش) أي: قال عطاء بن أبي رَبَاح.
          هذا التعليق ذكره أبو عبد الله بن مَندَه في «كتاب الصحابة» إثرَ حديث شُرَيحٍ المذكور مِن طريق ابن جُرَيْجٍ قال: فذكرتُ ذلك لعطاءٍ، فقال: (أَمَّا الطَّيْرُ فَأرَى أنْ يَذْبَحَهُ).
          (ص) وَقَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطاءٍ: صَيْدُ الأنْهَارِ وَقِلاتُ السَّيْلِ؛ أصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ}... {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا}[فاطر:12].
          (ش) أي: قالَ عبد الملك بن عبد العزيز بْن جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاء بن أبي رَبَاح.
          قوله: (قِلَاتُ السَّيْلِ) بكسر القاف وتخفيف اللَّام وبالتاء المُثَنَّاة مِن فوق، جمع (قَلْت) وهي النُّقرة التي تكون في الصخرة يستنقع فيها الماء، وكلُّ نقرةٍ في الجبل أو غيره فهو قَلْتٌ، وإِنَّما أراد ما ساق السيل مِنَ الماء وبقي في الغدير وكان فيه حِيتان.
          وهذا التعليق رواه أبو قرَّة موسى بن طارقٍ السَّكسَكيُّ في «سننه» عن ابن جُرَيْجٍ، ورواه عبد الرزَّاق أيضًا في «تفسيره» عن ابن جُرَيْجٍ نحوه سواء.
          (ص) وَرِكبَ الحَسَنُ ☺ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلابِ المَاءِ.
          (ش) قيل: (الحَسَنُ) هو ابن عليِّ بن أبي طالبٍ ☻، وقيل: هو الحسن البَصْريُّ، وقال بعضهم: ويؤيِّد القولَ الأَوَّل أنَّهُ وقع في روايةٍ: (وركب الحسن ◙ ).
          قُلْت: فيه نوعُ مناقشةٍ لا يخفى.
          قوله: (مِنْ جُلُودِ) أي: سَرجٍ متَّخذٍ مِن جلود (كِلَابِ المَاءِ).
          (ص) وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أنَّ أهْلِي أكَلُوا الضَّفَادِعَ لأطْعَمْتُهُمْ.
          (ش) أي: قال عامر بن شَرَاحيل (الشَّعْبِيُّ)... إلى آخِرِه.
          و(الضَّفَادِع) جمع (ضِفْدَِع) بكسر الضاد وسكون الفاء وفتح الدال وكسرها، وحُكيَ بِضَمِّ الضاد وفتح الدال، وفي «المحكَم»: «الضِّفدع» و«الضَّفدع» لغتان فصيحتان، والأنثى: «ضفدعة»، وقال الجَوْهَريُّ: وناسٌ يقولون: «ضِفدَع» بفتح الدال، وقد زَعَم الخليل أنَّهُ ليس في الكلام «فِعْلَل» إلَّا أربعة أحرفٍ: دِرهَم وهِجرَع وهِبلَع وقِلعَم؛ «الهِجرَع» الطويل، و«الهِبلَع» الأَكول، و«القِلعَم» الجبل، وزاد غيره: (الضِّفدَع) وجزم صاحبُ «ديوان / الأدب» بكسر الضاد والدال، وحكى ابن سِيدَه في «الاقتضاب» ضَمَّ الضاد وفتح الدال، وهو نادرٌ، وحكى ابنُ دِحْية ضمَّها، وقال الجاحظ: «الضفدع» لا يصيح، ولا يمكنه الصياح حَتَّى يدخلَ حنكه الأسفل في الماء، وهي مِنَ الحيوان الذي يعيش في الماءِ ويَبيضُ في الشطِّ؛ مثل السلحفاة ونحوها، وهي تَنِقُّ، فإذا أبصرتِ النارَ أمسكت، وهي مِنَ الحيوان الذي يُخلَق مِن أرحام الحيَوان ومِن أرحام الأرضينَ إذا ألقَحَتْها المياه، وأَمَّا قولُ مَن قال: إنَّها مِنَ السحاب فكذبٌ، وهي لا عظام لها، وتزعم الأعراب في خُرافاتِها أنَّها كانتْ ذا ذنَبٍ، وأنَّ الضبَّ سلبهُ إيَّاهُ، وتقول العرب: لا يكون ذلك حَتَّى يُجمَع بين الضبِّ والنون، وحتى يُجمَع بين الضفدع والضبِّ، والضفدع أجحظُ الخلق عينًا، وتصبر عن الماء الأيَّامَ الصالحة، وهي تعظُمُ ولا تسمَنُ كالأرنب، والأسدُ ينتابُها في الشَّرائع فيأكلها أكلًا شديدًا، والحيَّات تأتي مَناقِعَ المياه لطلبها، ويقال له: ينقُّ ويهدر.
          ولم يبيِّن الشعبيُّ هل يذكَّى الضفادع أم لا؟ واختلف مذهب مالكٍ في ذلك؛ فقال ابن القاسم في «المدوَّنة» عن مالكٍ: أكلُ الضفدع والسرطان والسلحفاة جائزٌ مِن غير ذكاةٍ، ورُويَ عن ابن القاسم: ما كان مأواه الماء يُؤكَل مِن غير ذكاةٍ وإن كان يَرعى في البرِّ، وما كان مأواه ومستقرُّه البرَّ لا يُؤكل إلَّا بذكاةٍ، وعن مُحَمَّد بن إبراهيم: لا يُؤكلان إلَّا بذكاةٍ، قال ابن التين: وهو قول أبي حنيفة والشَّافِعِيِّ.
          ثُمَّ اعلم أنَّ قول الشعبيِّ يردُّه ما رواه أبو سعيدٍ عثمان بن سعيدٍ الدارميُّ في «كتاب الأطعمة» بسندٍ صحيحٍ أنَّ ابن عمر قال: سأل رسول الله صلعم عن ضفدعٍ يجعلها في دواءٍ فنهى صلعم عن قتله، قال أبو سعيد: فيُكره أكلُه؛ إذ نهى رسول الله صلعم عن قتله؛ لأنَّه لا يمكن أكلُه إلَّا مقتولًا، وإن أُكِل غيرَ مقتولٍ فهو ميتةٌ، وزعم ابن حزم أنَّ أكله لا يحلُّ أصلًا، وروى أبو داود في (الطبِّ) وفي (الأدب) والنَّسائيُّ في (الصيد) عن ابن أبي ذئبٍ عن سعيد بن خالدٍ عن سعيد بن المسيَّب عن عبد الرَّحْمَن بن عثمان القرشيِّ: أنَّ طبيبًا سأل رسول الله صلعم عن الضفدع يجعلها في دواءٍ، فنهى عن قتلها، ورواه أحمد وإسحاق ابن راهُوْيَه وأبو داود الطَّيَالِسِيُّ في «مسانيدهم» والحاكم في «المستدرك» في (الطب) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، وقال البَيْهَقيُّ: وأقوى ما ورد في الضفدع هذا الحديثُ، وقال الحافظ المنذريُّ: فيه دليلٌ على تحريم أكل الضفدع؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم نهى عن قتله، والنهيُ عن قتل الحيَوان؛ إمَّا لحُرمتِه كالآدميِّ، وإمَّا لتحريم أكلِه كالصُّرَد والهدهد، والضفدعُ ليس بمحتَرَمٍ، فكان النهيُ منصرفًا إلى الوجه الآخر.
          (ص) وَلَمْ يَرَ الحَسَنُ بِالسُّلحَفَاةِ بَأسًا.
          (ش) أي: الحسن البَصْريُّ، ووصله ابن أبي شَيْبَةَ مِن طريق مبارك بن فَضَالة عن الحسن، قال: لا بأس بأكلها، وروى مِن حديث يزيد بن أبي زيادٍ عن جعفر: أنَّهُ أُتيَ بسلحفاة فأكلها، ومِن حديث حَجَّاجٍ عن عطاءٍ: لا بأس بأكلها؛ يعني: السلحفاة، وزعم ابن حزمٍ أنَّ أكلَها لا يحلُّ إلَّا بذكاةٍ، وأكلها حلالٌ؛ برِّيُّها وبحريُّها، وأكل بيضها، ورويَ عن عطاءٍ إباحة أكلها، وعن طاووس ومُحَمَّد بن عليٍّ وفقهاء المدينة إباحةُ أكلها، وعندنا يُكرَه أكلُ ما سوى السمك مِن دوابِّ البحر؛ كالسرطان والسلحفاة والضفدع وخنزير الماء، واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهُمُ الْخَبَائِثَ}[الأعراف:157] وما سوى السمك خبيثٌ، وقال مقاتلٌ: إنَّ السلحفاة مِنَ المُسوخ، وفي «الصحاح» أنَّها بفتح اللَّام، وحُكيَ إسكانها، وحُكيَ سقوط الهاء، وحكى الرُّؤاسيُّ: سُلَحفيَّة؛ مثال: بُلَهنيَّة، وهما مِمَّا يُلحَق بالخماسيِّ بألفٍ، وفي «المحكَم»: السُّلَحفاة والسُّلْحَفاة، والسُّلَحفاء مِن دوابِّ الماء.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ البَحْرِ، نَصْرَانِيٌّ أوْ يَهُودِيٌّ أوْ مَجُوسِيٌّ.
          (ش) قال الكَرْمَانِيُّ: كذا وقع في النُّسَخ / القديمة، وفي بعض النُّسَخ: <كُلْ مِن صيد البحر وإن صاده نصرانيٌّ أو يهوديٌّ أو مجوسيٌّ>.
          قُلْت: المعنى لا يصحُّ إلَّا على هذا، ولا بدَّ مِن هذا التقدير على قول النُّسَخ القديمة، ويُروى: <كُلْ مِن صيد البحر ما صاده نصرانيٌّ أو يهوديٌّ أو مجوسيٌّ>، وروى البَيْهَقيُّ مِن طريق سِمَاك بن حَرْبٍ عن عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاسٍ قال: (كُلْ ما ألقى البحر وما صِيدَ منه، صاده يهوديٌّ أو نصرانيٌّ أو مجوسيٌّ) وقال ابن التين: مفهومه أنَّ صيد البحر لا يُؤكل إن صاده غيرُ هؤلاء، وهو كذلك عند قومٍ.
          (ص) وَقَالَ أبُو الدَّرْدَاءِ ☺ : فِي الْمُرْي ذَبَحَ الخَمْرَ النِّينانُ وَالشَّمْسُ.
          (ش) (أَبُو الدَّرْدَاء) اسمه عُوَيْمِر بن مالكٍ الأنصاريُّ الخزرجيُّ، و(الْمُرْي) بِضَمِّ الميم وسكون الراء وتخفيف الياء، كذا ضبطه النوويُّ، وقال: ليس عربيًّا، وهو يشبه الذي يسمِّيه الناس: الكامخ؛ بإعجام الخاء، وقال الجواليقيُّ: التحريك لحنٌ، وقال الجَوْهَريُّ: بكسر الراء وتشديدها وتشديد الياء، كأنَّه منسوبٌ إلى المرارة، والعامَّة يخفِّفونه، وقال الحربيُّ: هو مري يُعمَل بالشام، يُؤخذ الخمر فيجعل فيها الملح والسمك، ويوضع في الشمس فيتغيَّر طعمه إلى طعم المري، يقول: كما أنَّ الميتة والخمر حرامان، والتذكية تُحِلُّ الميتة بالذبح، فكذلك الملح.
          قوله: (وَالْنِّينَان) بكسر النون وسكون الياء آخر الحروف وتخفيف النون الثانية، وهو جمع (نون) وهو الحوت، ثُمَّ تفسير كلام أبي الدَّرْدَاء بقوله: (فِي الْمُري) تقدَّمَ لفظًا، ولكن في المعنى متأخِّرٌ؛ تقديره: ذَبَحَ الخمرَ النينانُ والشمسُ في المري، و(ذَبَحَ) فعلٌ ماضٍ على صيغة المعلوم، و(الْخَمْرَ) منصوبٌ به؛ لأنَّه مفعوله، و(النِّينَانُ) بالرفع فاعله، و(الشَّمْسُ) عطفٌ عليه، وقيل: لفظ «ذبح» مصدرٌ مضافٌ إلى «الخمر» فيكون مرفوعًا بالابتداء، وخبره هو قوله: «النينان»، والمعنى: زوال الخمر في المري النينان والشمس؛ أي: تطهيرها.
          فهذا يدلُّ على أنَّ أبا الدَّرْدَاء ممَّن يرى بجواز تخليل الخمر، وهو مذهب الحَنَفيَّة، وقال أبو موسى في «ذيل الغريب»: عبَّر عن قوَّة الملح والشمس وغلبتهما على الخمر وإزالتهما طعمها ورائحتها بالذبح، وإِنَّما ذكر النينان دون الملح؛ لأنَّ المقصود مِن ذلك يحصل بدونه، ولم يرد أنَّ النينان وحدها هي التي خللته، وقال: كان أبو الدَّرْدَاء يُفتِي بجواز تخليل الخمر، فقال: إنَّ السمك بالآلة التي أضيفت إليه يغلب على ضراوة الخمر ويزيل شدَّتها، والشمس تؤثِّر في تخليلها فيصير حلالًا، قال: وكان أهل الريف مِنَ الشام يعجنون المري بالخمر، وربَّما يجعلون فيه السمك الذي يُربَّى بالملح والأبزار، مِمَّا يسمُّونه: الصحناء، والقصد مِن المري هضم الطعام يضيفون إليه كلَّ ثقيفٍ أو حريفٍ ليزيد في جلاء المعدة واستدعاء الطعام بحرافته، وكان أبو الدَّرْدَاء وجماعةٌ مِنَ الصحابة يأكلون هذا المري المعمول بالخمر، قال: وأدخله البُخَاريُّ في طهارة صيد البحر يريد أنَّ السمك طاهرٌ حلالٌ، وأنَّ طهارته وحلَّه يتعدَّى إلى غيره كالملح، حَتَّى يُصيَّر الحرام النجسة بإضافتها إليه طاهرةً حلالًا، وفي «التوضيح»: وكان أبو هُرَيْرَة وأبو الدَّرْدَاء وابن عَبَّاس وغيرهم مِنَ التَّابِعينَ يأكلون هذا المري المعمول بالخمر، ولا يرون به بأسًا، ويقول أبو الدَّرْدَاء: إِنَّما حرَّم الله الخمر بعينها وسكرها، وما ذبحته الشمس والملح؛ فنحن نأكله لا نرى به بأسًا.