عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب إذا أكل الكلب
  
              

          ░7▒ (ص) بابٌ إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه: إِذَا أكل الكلبُ مِنَ الصيد...، وجواب (إِذَا) محذوفٌ؛ تقديره: إذا أكل الكلبُ مِنَ الصيد لا يُؤكل، ولم يذكره اعتمادًا على ما يُفهَم مِن متن الحديث.
          (ص) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الصَّوَائِدِ وَالكَوَاسِبِ، {اجْتَرَحُوا} اكْتَسَبُوا {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {سَرِيعُ الْحِسَابِ}[المائدة:4]
          (ش) (وَقَوْلُهُ) مرفوع عطفًا على قوله: (بَابٌ) لأنَّه مرفوع على أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف؛ كما قلنا، وسبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أبو زُرْعَةَ: حَدَّثَنَا يحيى بن عبد الله بن بكير حدَّثني عبد الله بن لهيعة حدَّثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جُبَير: أنَّ عَدِيَّ بن حاتم ويزيد بن المهلهل الطائيَّيْن سألا رسول الله صلعم ، فقالا: يا رسول الله! قد حرَّم الله الميتة، فماذا يَحُلُّ لنا منها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَك}... الآية.
          قوله: ({قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}) يعني: الذبائح الحلال طيِّبة لهم، قاله سعيد بن جُبَير، وقال مقاتل بن حيَّان: {الطيِّبات} ما أُحِلَّ لهم مِن كلِّ شيء أن يصيبوه، وهو الحلالُ مِنَ الرزق.
          قوله: ({وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ}) أي: وأُحلَّ لكم ما اصطدتموه ممَّا علَّمتم من الجوارح؛ وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك، وهذا مذهبُ الجمهور من الصحابة والتَّابِعينَ والأئِمَّة وممَّن قال ذلك عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاس ☻ في قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} وهي الكلاب المعلَّمة والبازِي وكلُّ طير يُعلَّم للصيد، وروى ابن أبي حاتم عن خَيْثَمة وطاووس ومجاهد ومكحول ويحيى ابن أبي كثير: أنَّ {الجوارح} الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها.
          قوله: ({مُكَلِّبِينَ}) حالٌ من قوله: {عَلَّمْتُمْ} وهو جمعُ (مُكلِّب) وهو مؤدِّب الجوارح، ومُضرِيها بالصيد لصاحبها، ورائضُها لذلك، وقال بعضهم: {مُكلِّبين} مؤدِّبين، وليس هو «تفعيل» مِنَ الكلب الحيوان المعروف، وإِنَّما هو مِنَ الكلَب _بفتح اللَّام_ وهو الحِرص انتهى.
          قُلْت: هذا تركيبٌ فاسد، ومعنًى غير صحيح، ودعوى اشتقاقٍ مِن غير أصله، ولم يقل به أحد، بل الذي يقال هنا ما قاله الزَّمَخْشَريُّ الذي هو المرجِع إليه في التفسير، وهو أنَّهُ قال: _واشتقاقه_ أي: اشتقاق {مكلِّبين} من الكَلْب؛ لأنَّ التأديبَ أكثرُ ما يكون في الكلاب، فاشتقَّ من لفظه لكثرته في جنسه.
          فَإِنْ قُلْتَ: قال الزَّمَخْشَريُّ أيضًا: أو مِنَ الكَلَب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلِبٌ بكذا؛ إذا كان ضاريًا به.
          قُلْت: نحن ما ننكر أن يكون اشتقاق مكلَّبين من غير الكلب الذي هو الحيوان، وإِنَّما أنكرنا على هذا القائل قوله: وليس تفعيل من الكلب، وإِنَّما هو من الكلَب بفتح اللَّام، فالذي له أدنى مُسكة من علم التصريف لا يقول بهذه العبارة، وأيضًا فقد فسر الكلَب بفتح اللَّام بمعنى الحرص وليس كذلك معناه هَهُنا، وإِنَّما معناه مثل ما قاله الزَّمَخْشَريُّ، وهو معنى الضراوة.
          قوله: (الصَّوَائِدِ) / جمع (صائدة) (وَالْكَوَاسِبِ) جمع (كاسِبة) وهو صفة لقوله: {الْجَوَارِحِ} وقال بعضهم: صفة محذوف؛ تقديره: الكلاب الصوائد.
          قُلْت: هذا أيضًا فيه ما فيه، بل هي صفة لـ{الْجَوَارِحِ} كما قلنا.
          وقوله: (الصَّوَائِدِ) رواية الكُشْميهَنيِّ، ولغيره: <الكواسِب>.
          قوله: (الصَّوِائِدِ وَالْكَوَاسِبِ) وقوله: ({اجْتَرَحُوا} اكْتَسَبُوا) ليس مِنَ الآية الكريمة، بل هو معترض بين قوله: [{مُكَلِّبِينَ} وبين قوله]: {تُعَلِّمُونَهُنَّ} فذكر الصوائد والكواسب تفسيرًا لـ{الْجَوَارِحِ}، وذكر {اجْتَرَحُوا} بمعنى (اكتَسَبوا) استطرادًا؛ لبيان أنَّ الاجتراح يطلق على الاكتساب.
          قوله: ({تُعَلِّمُونَهُنَّ}) أي: الجوارح، وتعليمهنَّ أنَّهُ إذا أُرسِل استرسل، وإذا أشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حَتَّى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه؛ ولهذا قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّه} في مخالفة أمره {إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[المائدة:4].
          (ص) قَالَ ابْنُ عَبَّاس: إِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَقَدْ أَفْسَدَهُ، إِنَّما أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَاللهُ يَقُولُ: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ}[المائدة:4] فَيُضْرَبُ وَيُعَلَّمُ حَتَّى يتْرُكَ.
          (ش) هذا التعليق وصله سعيد بن منصورٍ مختصرًا من طريق عَمْرو بن دينار عن ابن عَبَّاس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل؛ فإِنَّما أمسك على نفسه.
          قوله: (أَفْسَدَهُ) أي: أخرجه عن صلاحيَّته للأكل.
          وقوله: (إِنَّما أَمْسَكَ...) إلى آخره تعليلٌ لِما قال.
          قوله: (فَيُضْرَبُ) على صيغة المجهول، وكذلك (يُعَلَّمُ).
          قوله: (حَتَّى يَتْرُكَ) أي: الأكل.
          (ص) وَكَرِهَهُ ابنُ عُمَرَ ☻.
          (ش) أي: كره أكلَ الصيد الذي أكلَ منه الكلبُ عبدُ الله بنُ عُمَرَ بن الخَطَّاب، ووصله وكيع بن الجرَّاح: حَدَّثَنَا سفيان ابن سعيدٍ عن ليثٍ عن مجاهدٍ عنه.
          (ص) وَقَالَ عَطَاءٌ: إنْ شَرِبَ الدَّمَ وَلَمْ يَأْكُلْ؛ فَكُلْ.
          (ش) أي: (قَالَ عَطَاءٌ) ابن أبي رَبَاح: (إنْ شَرِبَ) الكلبُ دمَ الصيد (وَلَمْ يَأْكُلْ) مِن لحمه؛ (فَكُلْ) يعني: كُلْ هذا الصيدَ.
          وهذا التعليق رواه ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه» عن حفص بن غياثٍ عن ابن جُرَيْجٍ عنه، وذكر عن عَدِيِّ بن حاتمٍ: إن شرب مِن دمه فلا تأكل، فَإِنَّهُ لم يتعلَّم ما علَّمته، وعن الحسن: إن أكلَ فكُلْ، فإن شرب فكُلْ، وزعم ابن حزمٍ أنَّ الجارح إذا شرب مِن دم الصيد لم يضرَّ ذلك شيئًا؛ لأنَّ سيِّدنا رسول الله صلعم حرَّم علينا أكلَ ما قُتِل إذا أكل، ولم يحرِّم إذا ولغ، قال القرطبيُّ: وهو قول سعد بن أبي وَقَّاصٍ وابن عمر وسلمان ♥ ، قالوا: إذا أكل الجارح يُؤكَل ما أكل، وهو قول مالكٍ، وقال ابن بَطَّالٍ: وهو قول عليِّ بن أبي طالبٍ وسعيد بن المُسَيَِّبِ وسليمان بن يسارٍ والحسن بن أبي الحسن ومُحَمَّد بن شهابٍ وربيعة والليث، وقال أبو حنيفة ومُحَمَّد بن إدريس وأحْمَد وإسحاق: إن أكل لا يُؤكَل، وقال القرطبيُّ: وهو قول الجمهور مِنَ السلف وغيرهم؛ منهم ابن عَبَّاس وأبو هُرَيْرَة وابن شهابٍ _في روايةٍ_ والشعبيُّ وسعيد بن جُبَيرٍ والنخعيُّ وعطاء بن أبي رَبَاحٍ وعِكرمة وقتادة.