عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب التسمية على الصيد
  
              

          ░1▒ (ص) بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان وجوب التسمية على الصيد، ولفظ: (باب) لم يثبت في رواية كريمة ولا في رواية الأصيليِّ وأبي ذرٍّ، وثبت للباقين، و(الصَّيْد) مصدرٌ مِن صاد يصيد صيدًا فهو صائدٌ وذاك مَصيدٌ، وقد يقع الصيد على المصيد نفسه تسميةً بالمصدر؛ كما في قوله ╡ : {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة:95] قيل: لا يقال للشيء صيدٌ حَتَّى يكون ممتنعًا حلالًا، لا مالكَ له.
          (ص) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:94]، وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}[المائدة:1]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}[المائدة:3].
          (ش) في كثيرٍ مِنَ النُّسَخ ذكرُ هذه الآيات الثلاثة، وهي في (المائدة) ؛ الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:94]، الثانية: قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[المائدة:1]، الثالثة: قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ / فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}[المائدة:3]، وفي بعض النُّسَخ: <وقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ}> وقال بعض الشُّرَّاح: كذا لأبي ذرٍّ، وقدَّم وأخَّر في رواية كريمة والأصيليِّ، وزاد بعد قوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}: <الآية، إلى قوله: [{عَذَابٌ أَلِيمٌ}> وعند النَّسَفِيِّ: <في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} الآيتين>، وكذا لأبي الوقت لكن قال: <إلى قوله]: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}> وفرَّقهما في رواية كريمة والأصيليِّ.
          قوله تعالى: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ})... الآية: نزلت في عمرة الحديبية، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم، يتمكنَّون مِن أخذه بالأيدي والرماح جهرًا وسرًّا لتظهر طاعة مَن يطيع منهم في سرِّه وجهره، وقال الوالبيُّ عن ابن عَبَّاسٍ: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} قال: هو الضعيف مِنَ الصيد وصغيره يَبتلي الله به عباده في إحرامهم حَتَّى لو شاؤوا لتناولوه بأيديهم، فنهاهم الله أن يقربوه، قال مجاهدٌ: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني: صغار الصيد وفراخه {وَرِمَاحُكُمْ} يعني: كباره.
          قوله: ({فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ}) أي: بعد هذا الإعلام والإنذار؛ ({فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}) أي: لمخالفة أمر الله وشرعه.
          قوله: ({أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}) هي الإبل والبقر والغنم، قاله الحسن وقتادة.
          قوله: ({إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}) استثناءٌ مِن قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} قال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ: يعني بذلك: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردِّية، والنطيحة، وما أكل السَّبع، فإنَّ هذه وإن كانت مِنَ الأنعام إلَّا أنَّها تحرم بهذه العوارض؛ ولهذا قال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} منها، فَإِنَّهُ حرامٌ لا يمكن استدراكه.
          قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} نصبٌ على الحال، والمراد بـ{الأَنْعَام} ما يعمُّ الإنسيَّ مِنَ الإبل والبقر والغنم، وما يعمُّ الوحشيَّ كالظباء ونحوه، فاستثنى مِن الإنسيِّ ما تَقَدَّمَ، واستثنى مِنَ الوحشيِّ الصيدَ في حال الإحرام، و(الحُرُم) جمع (حَرَامٍ).
          قوله: {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} يعني: إنَّ الله حكيمٌ في جميع ما يأمر به وينهى عنه.
          قوله: ({حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}) استُثنِيَ منها السَّمك والجَراد.
          قوله: ({وَالدَّمُ}) يعني: المسفوح.
          قوله: ({وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}) سواءٌ كان إنسيًّا أو وحشيًّا، واللَّحْم يعمُّ جميع أجزائه.
          قوله: ({وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ}) أي: ما ذُبِح على اسم غير الله مِن صنمٍ أو وثنٍ أو طاغوتٍ، أو غير ذلك مِن سائر المخلوقات؛ فَإِنَّهُ حرامٌ بالإجماع.
          قوله: ({وَالْمُنْخَنِقَةُ}) هي التي تموتُ بالخنق إمَّا قصدًا أو اتِّفاقًا؛ بأن تتخبَّل في وثاقها فتموت، فهي حرامٌ.
          قوله: ({وَالْمَوْقُوذَةُ}) هي التي تُضرَب بشيءٍ ثقيلٍ غير محدودٍ حَتَّى تموت، وقال قتادة: كان أهل الجاهليَّة يضربونها بالعصا، حَتَّى إذا ماتت أكلوها.
          قوله: ({وَالْمُتَرَدِّيَةُ}) هي التي تقع مِن شاهقٍ فتموت بذلك فتحرم، وعن ابن عَبَّاسٍ: أنَّها التي تسقط مِن جبلٍ، وقال قتادة: هي التي تتردَّى في بئرٍ.
          قوله: ({وَالنَّطِيحَةُ}) هي التي تموت بسبب نطح غيرها لها وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو مِن مذبحها.
          [قوله: ({وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}) أي: ما عدا عليها أسدٌ أو فهدٌ أو نمرٌ أو ذئبٌ أو كلبٌ فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرامٌ وإن كان قد سال منها الدماء ولو مِن مذبحها]، فهي حرامٌ بالإجماع.
          قوله: ({إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}) عائدٌ على ما يتمكَّن عودُه عليه مِمَّا اتَّفق سبب موته وأمكن تدارُكه وفيه حياةٌ مستقرَّةٌ، وعن ابن عَبَّاسٍ: إلَّا ما ذبحتم مِن هذه الأشياء وفيه روحٌ؛ فكلوه فهو ذكيٌّ، وكذا روي عن سعيد بن جُبَيرٍ والحسن البَصْريِّ والسُّدِّيِّ، ورُويَ عن طاووس والحسن وقتادة وعُبَيد بن عُمَيْر والضَّحَّاك وغير واحدٍ: أنَّ المذكَّاة متى تحرَّكت حركةً تدلُّ على بقاء الروح فيها بعد الذبح؛ فهي حلالٌ، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه يقول أبو حنيفة والشَّافِعِيُّ وأحمد ▓.
          قوله: ({وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}) قال مجاهدٌ وابن جُرَيْجٍ: كانت النصب حجارةً حول الكعبة، قال ابن جُرَيْجٍ: وهي ثلاث مئةٍ وستُّون نصبًا كانت العرب في جاهليَّتها يذبحون / عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرِّحون اللَّحم، ويضعونه على النصب.
          قوله: ({وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}) أي: وحُرِّم عليكم أيُّها المؤمنون الاستقسام بالأزلام، وهو جمع (زَلْم) بفتح الزاي، وهي عبارةٌ عن قداحٍ ثلاثةٍ على أحدها مكتوبٌ: افعل، وعلى الآخر: لا تفعل، والثالث غفلٌ، ليس عليه شيءٌ، وقيل: مكتوبٌ على الواحد: أمرني ربِّي، وعلى الآخر: نهاني ربِّي، والثالث عطلٌ، ليس عليه شيءٌ، فإذا جاء السهم الآمر فعلَه، أو الناهي تَرَكَه، وإن طلع الفارغ أعاد الاستقسام.
          قوله: ({ذَلِكُمْ فِسْقٌ}) أي: تعاطيه فسقٌ وغيٌّ وضلالٌ وجهالةٌ وشركٌ.
          قوله: ({الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}) يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم، وقيل: يئسوا مِن مشابهة المسلمين بما يُتميَّز به المسلمون مِن هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله؛ ولهذا أمر الله عبادَه المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفَّار، ولا يخافوا أحدًا إلَّا الله تعالى، فقال: ({فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}) حَتَّى أنصرَكم عليهم، وأُظفرَكم بهم، وأشفِ صدوركم منهم، وأجعلكم فوقَهم في الدنيا والآخرة.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعُقُودُ: الْعُهُودُ مَا أُحِلَّ وَحُرِّمَ. {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} مِنَ الْخِنْزِيرِ.
          (ش) أي: قال ابن عَبَّاسٍ في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1] وفسَّر العقود بالعهود، وحكى ابن جريرٍ الإجماعَ على ذلك، وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ: {العُقُود} يعني: ما أحلَّ الله وما حرَّم، وما جاء في القرآن كلِّه، ولا تغدُروا ولا تنكثوا.
          قوله: ({إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}) قال ابن عَبَّاسٍ: يعني: الميتة والدم ولحم الخنزير، وقد مرَّ تفسيرُه عن قريبٍ.
          (ص) {يَجْرِمَنَّكُمْ} يَحْمِلَنَّكُمْ. {شَنَآنُ} عَدَاوَةُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[المائدة:2] أي: لا يحملنَّكم بغض قوم على العدوان، وقرأ الأَعْمَش بِضَمِّ الياء في: {لَا يُجْرِمَنَّكُمْ}.
          وفسَّر قوله: ({شَنَآنُ}) بقوله: (عَدَاوَةُ) وقرئ بسكون النون أيضًا، وأنكر السكونَ مَن قال: لا يكون المصدر على (فَعْلان).
          (ص) {الْمُنْخَنِقَةُ} تُخْنَقُ فَتَمُوتُ. {الْمَوْقُوذَةُ} تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ يُوقِذُهَا فَتَمُوتُ. {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} تَتَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ. {وَالنَّطِيحَةُ} تُنْطَحُ الشَّاةُ فَمَا أَدْرَكْتَهُ يَتَحَرَّكُ بِذَنَبِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ فَاذْبَحْ وَكُلْ.
          (ش) قد مرَّ تفسيرُ هذه الأشياء عن قريبٍ.
          قوله: (يُوقِذُهَا) مِن أوقذ، و(الموقوذة) مِن وقذ، يقال: وقذه وأوقذه، و(الوَقْذُ) بالذال المُعْجَمة في الأصل: الضرب المثخِن والكسر.
          قوله: (فَمَا أَدْرَكْتَهُ) بفتح التاء على خطاب الحاضر.
          قوله: (يَتَحَرَّكُ) في موضع الحال؛ أي: فما أدركتَه حالَ كونه متحرِّكًا بذَنَبه.
          قوله: (فَاذْبَحْ) أمرٌ مِن ذَبَح، (وَكُلْ) أمرٌ مِن أَكَل.