مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب وجوب النفقة على الأهل والعيال

          ░2▒ باب وجوب النفقة على الأهل والعيال
          فيه حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلعم: ((أفضل الصدقة ما ترك غنى...)) الحديث.
          وحديثه أيضاً: ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى...)).
          سلف في العليا والسفلى أقوال، وأصحها: العليا: المعطية، والسفلى: السائلة، وليس كل سائل يكون أفضل من مسئول(1)؛ فقد سأل موسى والخضر أهل قرية، وقال ◙: ((هو لها / صدقة ولنا هدية)).
          قوله: (هذا من كيس أبي هريرة) أي: من قوله، يعني: تقول المرأة إلى آخره. واحتج به من يرى الفسخ بالإعسار، وهو مالك والشافعي، خلافاً لأبي حنيفة.
          قوله: (ما كان عن ظهر غنى) قيل: المعنى: ما ساق إلى المعطى غنى، وفيه نظر، بل المراد ما لم يجحف بالمعطي؛ أي: ما سهل عليه، ويؤيده الحديث السالف: ((أفضل الصدقة ما ترك غنى)).
          وادعى المهلب الإجماع على أن نفقة الأهل والعيال واجبة، والحديث ظاهر فيه، وكذا قوله: ((وابدأ بمن تعول)) ولم يذكر إلا الصدقة، دل على أن نفقته على من يعول من أهل وولد محسوب له في الصدقة، وإنما أمرهم الله ببداءة الأهل، خشية أن يظنوا أن النفقة على الأهل لا أجر لهم فيها، فعرفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غيرها إلا بعد أن يقوتوهم.
          وقوله: (ابدأ بمن تعول) إنما قاله؛ لأن حق نفس المرء عليه أعظم من حق كل أحد نفقة ابنه إذا صح ذلك، فلا وجه لصرف ما هو مضطر إليه إلى غيره، إذا كان ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه وأهله، وإنما له إحياء غيره بغير إهلاك نفسه وولده وأهله، إذا فرض عليه النفقة عليهم، وليست النفقة على غيرهم فرضاً عليه، ولا شك أن الفرض أولى بكل أحد من إيثار التطوع عليه.
          وفيه: أن النفقة على الولد ما داموا صغاراً فرض عليه؛ لقوله: ((إلى من تدعني)) وكذلك نفقة العبد والخادم للمرأة واجبة عليه.
          ونفقة الزوجة ثابتة بالنصوص والإجماع، ومن النص: قوله ◙ يوم عرفة: ((لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))، وقوله لهند: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)).
          وقام الإجماع على أنه يجب عليه نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم ولا كسب، واختلفوا _كما قال ابن المنذر_ في نفقة من بلغ منهم ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولد صلبه الذكور حتى يحتلموا، والنساء حتى يتزوجن ويدخل بهن، فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها، فلا نفقة لها على أبيها، وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها، ولا نفقة لولد الولد على الجد عند مالك.
          وقال الثوري: يجبر الرجل على نفقة ولده الصغار غلاماً كان أو جارية، فإن كانوا كباراً أجبر على نفقة النساء، ولا يجبر على نفقة الرجال إلا أن يكونوا زمناء.
          وأوجب طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد، على ظاهر حديث هند، ولم يستثن ولداً بالغاً دون طفل.
          قلت: هذه واقعة عين لا عموم لها، والعموم في الأفعال غير لازم.
          قوله: (يقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني) يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب، ومن بلغ سن الحلم لا يقول ذلك؛ لأنه بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها؛ لقوله تعالى: {حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} [النساء:6]، فجعل بلوغ النكاح حدًّا في ذلك.
          وقال ابن حزم: يجبر على النفقة على ذوي رحمه المحرمة، إن كانوا فقراء، ولا عمل بأيديهم تقوم مؤنتهم منه، وهم الأعمام والعمات وإن علو، والخالات والأخوال وإن علوا، وبنو الإخوة وإن سفلوا، إلا الأبوين والأجداد والجدات والزوجات، فإنه يكلف أن يغنونهم عن خسيس الكسب إن قدر على ذلك، ويباع عليه في كل ما ذكرنا ما به عنه غنى من عقار وعرض وحيوان.
          قال: وقالت طائفة: لا يجبر أحد على نفقة أحد. وقال الشافعي: ما رأيت أحداً أجبر أحداً على أحد. يعني: نفقته، وقالت طائفة: لا ينفق أحد إلا على الوالد الأدنى، والأم التي ولدته من بطنها، ويجبر الرجل دون المرأة على النفقة على الولد الأدنى الذكر، حتى يبلغ فقط، وعلى الابنة الدنيا وإن بلغت، حتى يزوجها فقط، ولا تجبر الأم على نفقة ولدها وإن مات جوعاً / ، وهي في غاية الغنى، وليس على الولد أن ينفق على زوجة أبيه ولا على أم ولده؛ إذ لم يوجب ذلك قرآن ولا سنة أنها عليه أن يقوم بمطعم أبيه وملبسه ومؤنة خدمته فقط.
          واختلف في المعسر، هل يفرق بينه وبين امرأته بعدم النفقة؟ فقال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لزوجته الخيار بين أن تقيم عنده _ولا يكون لها شيء في ذمته أصلاً_ وبين أن تطلب الفراق، فيفرق الحاكم بينهما.
          قلت: عندنا أنها إذا صبرت صارت عليه ديناً، ونقله ابن التين عن عمر وعلي وأبي هريرة من الصحابة، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وقال: إن ذلك سنة.
          وقالت طائفة: لا يفرق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم. هذا قول عطاء والزهري، وإليه ذهب الكوفيون.
          وعبارة ابن حزم: ثم اختلفوا، فقال مالك: يؤجل في عدم النفقة شهراً أو نحوه، وفي الصداق عامين، ثم يطلقها عليه الحاكم طلقة رجعية، فإن أيسر في العدة فله ارتجاعها.
          وفي ((الإشراف)) عن حماد بن أبي سليمان: يؤجل سنة. وعن عمر بن عبد العزيز: شهراً أو شهرين. وقال الشافعي: لا يؤجل أكثر من ثلاث. وقالت طائفة: لا يؤجل إلا يوماً واحداً، ثم يطلقها الحاكم عليه.
          واحتج الشافعيون على أصحاب مالك بقولهم: إذا كلفتموها صبر شهر؛ ولا سبيل إلى صبر شهر بلا أكل، فأي فرق بين ذلك وبين تكليفها الصبر أبداً؟.
          وقالوا للحنفي: قد اتفقنا على التفريق بين من عسر عن امرأته وبينها بضرر فقد الجماع، فضرر فقد النفقة أشد.
          وقال أصحاب الرأي: يفرض لامرأة المعسر في كل شهر بكذا. قال أبو بكر: لو جاز أن يفرض لشهر تقبضه في أول الشهر لجاز أن يفرض لسنة وتقبضه في أول السنة، والصحيح من ذلك ما ذهب إليه الشافعي أن ينفق عليها يوماً بيوم، فإن مرضت مرضاً شديداً لا يقدر معه على إتيانها كانت عليه نفقتها هذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي.
          وإذا كان على الزوج صداق ونفقة فدفع شيئاً، فاختلفا فيما دفع، فقال الزوج: من المهر. وقالت: من النفقة. فالقول قول الزوج مع يمينه، في قول الشافعي وأصحاب الرأي وأبي ثور، فإن اختلفا في النفقة، فقال الزوج: دفعتها إليها. وأنكرت، قال الشافعي وأبو ثور: القول قولها مع يمينها.


[1] في هامش المخطوط: ((صوابه: ليس كل مسئول أفضل من السائل)).