الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من نذر المشي إلى الكعبة

          ░27▒ (باب مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ) أي: باب بيان حكمِ من نذرَ السَّيرَ راجلاً (إِلَى الْكَعْبَةِ) أي: للحجِّ أو العمرة أو للطَّواف وحدَه، ومثل المشي الإتيانُ إليها، وكالكعبة المسجدِ الحرام، وكلُّ ذلك طاعةٌ يصحُّ نذرهُ على تفصيل وخلاف يأتي، وخرجَ بالكعبةِ غيرها من الأماكنِ المعظَّمة كمسجدِي المدينة والأقصَى، ففيه تفصيلٌ وذلك أنَّه يصحُّ نذرُ الصَّلاة فيهما، ويتعيَّنان لها.
          نعم، يكفي فعلها في المسجدِ الحرام؛ لأنَّه أشرف ولا يلزمهُ المشيُ، وأما غيرهما من المساجد، فيصحُّ نذر الصَّلاة فيها، ولا يتعيَّن بل له الصَّلاةُ في أيِّ مسجدٍ كان، وفي ذلك خلافٌ بين أهل العلمِ سيأتي مفصَّلاً في كتاب النُّذور إن شاء الله تعالى، ولنذكرْ بعض شيءٍ منه هنا.
          وحاصلُ ما ذكره ابن بطَّال مع زيادةٍ: أنَّ في ذلك أربعة مذاهبَ:
          أحدها: مذهبُ أهل الظَّاهر أنه يلزم المشيُ والوفاءُ به، فإذا عجزَ عنه فلا شيءَ عليه من هديٍ ولا غيره، ويركب أخذاً بظاهرِ حديثي الباب.
          ثانيها: مرويٌّ عن عليٍّ وابن عمر: أنَّ من نذر المشيَ إلى بيت الله الحرام أنَّه يلزمه المشيُ ما استطاعَ، فإذا عجزَ ركبَ وأهدى، قال: وهو قول عطاءٍ والحسن وأبي حنيفة والشَّافعي، إلَّا أنَّ أبا حنيفة وأصحابه قالوا: وكذا من ركبَ وهو غيرُ عاجز ٍيكفِّر عن يمينهِ.
          ثالثها: أنَّه يعود بحجٍّ مرَّة أخرى، ثمَّ يمشي ما ركبَ ولا هديَ عليه، وهو قولُ ابن عمر، ورويَ عن ابن عبَّاس وابن الزُّبير والنَّخعي وسعيد بن جُبير.
          رابعها: أنَّه يعودُ فيمشِي ما ركبَ وعليه الهديُ، وروي هذا عن ابن عبَّاسٍ أيضاً، وعن سعيد بن المسيَّب والنَّخعي قال: وهو قول مالكٍ، فجمع عليه المشيَ والهدي احتياطاً، انتهى ملخَّصاً / .
          وأقول: مقتضى كلامه الفرقُ بين الرُّكوب للضرير وغيره عند الحنفيَّةِ، وأنَّهُ يلزمه المشيُ عندهُم، ولعلَّه قولٌ لهم، وإلا ففي ((الكنز وشرحه)) للزَّيلعي: لو قال رجلٌ: علي المشيُ إلى بيت الله أو الكعبة؛ لزمه حجٌّ أو عمرةٌ ماشياً، وإن شاءَ ركبَ وأراق دماً.
          وعندَ الشَّافعيَّة خلافٌ في لزومِ المشي إذا نذرهُ، والصَّحيحُ لزومه، وإن قلنا: أنَّ الرُّكوب أفضلُ؛ لأنَّ المشيَ مقصودٌ، ثمَّ إن قيَّده من محلٍّ فيتعيَّن منه وإلا فمِن حيث أحرم ولو قبلَ الميقاتِ، ويلزمه حجٌّ أو عمرةٌ، أو هما نواهمَا بنذرهِ المشي، أو أطلقَ، أو نفا ذلك، فلو تركَ المشيَ لعذرٍ أو غيره؛ لزمه دمٌ كدم التَّمتُّع في الأظهرِ، ولا إثمَ عليه مع العذر كما لو نذرَ صلاةً في المسجدِ الحرامِ، فنذر المشي إليهما مطلقاً لا يوجب شيئاً، فلو أفسدَ هذا الحجَّ، أو فاته؛ لزمهُ المشيُ في قضائهِ لا في المضيِّ في فاسده ولا في تحلُّله بالفواتِ؛ لخروجهِ بذلك عن إجزائه عن النَّذر، ومثل نذرِ المشي إلى بيت اللهِ الحرام نذر إتيانهِ، لكن لا يلزمهُ مشيٌ حينئذٍ، ولو نذرَ المشيَ حافياً لم يلزمْهُ الحفاء، ويلزم النَّذر مطلقاً؛ لأنَّ الحفاءَ ليس بقربةٍ في نفسهِ.
          نعم، بحث الأسنويُّ لزومه فيما يسنُّ فيه كعند دخولِ الكعبةِ، قاله في ((التحفة)).