الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما يقتل المحرم من الدواب

          ░7▒ (باب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ) أي: بيانُ ما يجوز للمحرم قتلهُ، ولا يجبُ فيه جزاءٌ يحتمل أن تكون ((ما)) استفهامية أو موصولة أو نكرة موصوفة.
          و((الدواب)) جمع: دابة، تقعُ على المذكر والمؤنث والهاء للمبالغة، وهي في أصل اللغة ما يدبُّ على الأرض، وقال صاحب ((المنتهى)): هي كلُّ ماشٍ على الأرض، واستعمالها في التي تركبُ أشهر.
          وقال العيني: الدَّابَّة في الأصل لكلِّ ما يدبُّ على وجهِ الأرض، ثمَّ نقله العرف العام إلى ذوات القوائمِ الأربعِ من الخيل والبغال والحمير، ويُسمَّى هذا منقولاً عرفياً قال: فإن قلتُ: في أحاديث الباب الغرابُ والحدأةُ وليسا من الدَّوابِّ، ولو قال من الحيوان لكان أصوب.
          قلت: أكثرُ ما في أحاديث الباب الدَّواب فنظرَ إلى جانب الأكثر، انتهى.
          وأقول: كأنَّ مبنى الإيراد والجواب بناءً على ما ذكره بعضهم من إخراج الطير منها لظاهر قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38].
          وسيأتي ردُّه فهو من عطف الخاص على العام لنكتة، وإمَّا على إرادة المعنى العرفي الذي ذكره، وأما على أصلِ مدلولهِ اللغوي فهو عامٌّ لكلِّ ذي روحٍ دبَّ على الأرضِ أو غيرها.
          قال في ((المصباح)): دبَّ الصَّغيرُ يدِبُّ فهو من باب ضرب دَبِيباً، ودَبَّ الجيشُ أيضاً دَبِيباً سَاروا سَيراً لَيِّناً، وكلُّ حيوانٍ في الأرض دابَّةٌ وتصغيرها دُوَيبةٌ على القياس، وسُمِع دُوَابَّةٌ بقلب الياء ألفاً على غير قياسٍ.
          وخالفَ بعضهم فأخرج الطَّير من الدَّوابِّ ورد بالسماع وهو قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] قالوا: أي: خلقَ كلَّ حيوانٍ مميزاً كان أو غيرَ مميَّزٍ، وأما تخصيصُ الفرسِ والبغل بالدَّابَّةِ عند الإطلاقِ فعرفٌ طارئٌ، وتطلقُ الدابَّةُ على الذَّكرِ والأنثى، والجمع الدَّوابُّ، انتهى.
          وقال ابن قاسمٍ العبادي في ((شرح الورقات الكبير)) بعد كلامٍ كثيرٍ وتحرير: ثمَّ رأيتُ في مواضع من تفسيرِ الإمام ما يقتضي عمومَ الدَّابَّة لغةً لكلِّ حيوانٍ في الأرض أو غيرها، وعمومُ الحيوان للملائكة وغيرهم فإنَّه قال في قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام:38] الحيوان إما أن يكون بحيث يدبُّ أو يكون بحيث يطيرُ، ولا يبعد أن يدخلَ في هذين القسمين مثل حيتان البحر وسائر ما يسبحُ في الماء ويعيشُ فيه، ولا يبعد أن توصفَ بأنَّها دابَّةٌ من حيث أنَّها تدبُّ في الماء فهي كالطَّير؛ لأنَّها تسبحُ في الماء كما أنَّ الطَّير يسبحُ في الهواء إلا أنَّ وصفها بالدَّبيب أقربُ إلى اللُّغةِ من وصفها بالطيران.
          وأما تقييدُ الدَّابَّة بكونها في الأرضِ فللاحتجاجِ بالأظهر لظهورها عليها دون السَّماء، وقال في قوله تعالى في هود: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
          قال الزَّجَّاج: الدَّابَّةُ اسمٌ لكلِّ حيوانٍ ذكر أو أنثى أخذاً من الدَّبيب، وبنيت على هاء التأنيث لكنها بحسب عرفِ العرب اختصَّت بالفرس.
          وقال في سورة النور في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] لمَ قال تعالى: {مِنْ مَاءٍ}؟ مع أن كثيراً من الحيواناتِ غير مخلوقٍ من ماء، أمَّا الملائكة وهم أعظمُ الحيوانات فهم مخلوقون من النُّور، وأما الجنُّ فهم مخلوقون من النَّار، وأما آدمُ فهو مخلوقٌ من التُّراب، وأما عيسى فهو مخلوقٌ من روح الله؟.
          وأجاب بأجوبةٍ: منها أنَّ الماء أصلُ جميع المخلوقاتِ على ما روي: ((أوَّل ما خلقَ الله جوهرةً فنظرَ إليها بعين الهيبةِ فصارت ماءً، ثمَّ خلقَ من ذلك الماءِ النَّارَ والهواءَ والتُّراب))، انتهى ملخَّصاً.
          فهذا ونحوهُ من كلام اللغويين وغيرهم يدلُّ على أنَّ الدَّابَّة تشملُ الغراب والحدأة، فلا يكونُ التَّعبير بقوله من الحيوانِ أصوب بالنَّظر لأصلِ اللَّغة، / إذْ لا فرق في التعبير بين الدَّوابِّ والحيوان لا يستدلُّ بهما كما تفرد فيه على أن تخصيصه العرفَ العام بذواتِ القوائمِ الأربع من الخيل والبغال والحمير فقط فيه نصٌّ، فإنَّها فيه تشملُ نحو الإبلَ والأسدَ والذئب وغيرها كما صرَّحوا بذلك، ولعلَّ هذا عرفٌ خاصٌّ ببعض الفقهاء أو الجهات، فتأمَّل.
          وقال في ((الفتح)): وقد أخرج بعضهم منها الطَّير؛ لقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ} الآية [الأنعام:38] وهذا الحديثُ يردُّ عليه، وكذا قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] وكذا قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآية [العنكبوت:60].
          وحديثُ أبي هريرة عند مسلمٍ: ((وخلَقَ الدَّوابَّ يوم الخميسِ)) ولم يفرد الطَّير بذكر، وقد تصرَّف أهلُ العرفِ في الدابة، فمنهم من يخصُّها بالحمار، ومنهم من يخصُّها بالفرسِ، وفائدةُ ذلك تظهرُ في الخلق، انتهى فتدبَّر.
          نعم بعضهم خصَّها بالفرس، وبعضهم زاد البغلَ كما علمت فتدبَّر.