الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد أكله

          ░2▒ (باب إِذَا صَادَ الْحَلاَلُ) أي: صيداً (فَأَهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ أَكَلَهُ) أي: جازَ له أكلهُ حيث لم يدله المحرمُ عليه، ولا أشارَ به إليه.
          قال في ((الفتح)): كذا ثبتَ لأبي ذرٍّ وسقطَ للباقين، فجعلوهُ من جملة الباب الذي قبله، انتهى.
          لكن اعترضهُ القسطلاني فقال: والذي في الفرع يقتضِي أنَّ لفظ الباب هو السَّاقطُ دون التَّرجمةِ، قيل: غرضُ المصنِّفِ من هذه التَّرجمةِ الرَّدَّ على من قال: لا يجوزُ للمحرمِ أن يأكلَ من الصَّيدِ الذي صادهُ الحلالُ، وإن لم يدلَّه عليه، ولا أعانَ عليه غيره، ولا صادهُ لأجلهِ، فإن وجدَ أحد من الأمور الثَّلاثة لم يحلَّ للمحرمِ.
          (وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ) مما وصلهُ عبد الرَّزَّاق من طريق عكرمة: أن ابن عبَّاسٍ أمرهُ أن يذبحَ جزوراً وهو محرمٌ (وَأَنَسٌ) مما وصله ابن أبي شيبة من طريق الصباح البجليِّ بلفظ: سألتُ أنس بن مالكٍ عن المحرم يذبح؟ قال: نعم.
          (بِالذَّبْحِ) أي: بذبحِ المحرم؛ أي: بمذبوحهِ، ويحتملُ أنَّه باقٍ على مصدريَّته (بَأْساً) لما كان ظاهرُ كلامهما شاملاً للصَّيد وغيره، بيَّن المصنف أنَّه خاصٌّ بغير الصَّيد فقال: (وَهُوَ) أي: الذَّبحُ بمعنى المذبوح (غَيْرُ الصَّيْدِ) ولأبي ذرٍّ: <في غير الصيد> (نَحْوُ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ وَالْخَيْلِ) وهذا متَّفقٌ عليه بين العلماءِ إلا في ذبحِ الخيل، فإنَّه خاصٌّ بمن يبيحُ أكلها، وقد جرى المصنِّف على عادتهِ الغالبة في تفسير بعضِ الكلماتِ القرآنيَّةِ باللغة فقال، وفيه: أنَّه لا يناسبُ ذكرهُ في هذا الباب كالأثرِ قبله، ومن ثمَّ قيل: اللَّائق / ذكرهما في البابِ الذي قبلهما، فتأمَّل.
          (يُقَالُ: عَدْلُ ذَلِكَ) أي: بفتح العين (مِثْلُ) بكسر الميم وسكون المثلثة، هذا تفسيرُ أبي عبيدة، ولأبي الوقت: <عدل ذلك مثله> (فَإِذَا كُسِرَتْ) بالبناء للمفعول وتاء التأنيث؛ أي: عين عدل، وفي بعض الأصُول بالبناء للفاعل وتاء الخطاب وهو أنسب بقوله: (قلت: عِدْلٌ) أي: قال القسطلاني، وفي بعض الأصول المعتمدة: <فإذا كَسرتَ> بفتح الكاف وتاء الخطاب <عدلاً> بالنصب على المفعولية، وبفتح العين (فَهُوَ) أي: عِدل بكسر العين (زِنَةُ ذَلِكَ) أي: مثلهُ في القدر، ومنه عدلا الرجل.
          وقال الطبري: العدلُ في كلام العرب بالفتح: قدر الشَّيءِ من غيرِ جنسهِ، وبالكسر: قدرهُ من جنسهِ، قال: وذهب بعضُ أهل العلمِ بكلام العربِ إلى أنَّ العدل مصدر من قولِ القائلِ: عدلتُ هذا بهذا.
          وقال بعضهم: العَدلُ: هو القسطُ في الحقِّ، والعدل _بالكسر_: المثلُ.
          ({قِيَاماً}) بكسر القاف والياء في قوله تعالى في المائدة: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:97] (أي: قِوَاماً لهم) بكسر القاف، وبقاء الواو مثلاً فقواماً أصل قياماً فقلبت الواو ياء، قال الشاعر:
قِيَامُ دُنْيَا وَقِوَامُ دِيْنٍ
          قال الطبري: فالمعنى جعل الله الكعبةَ بمنزلة الرَّئيس الذي يقومُ به أمرُ أتباعه يقال: فلانٌ قيِّم البيت وقوامه؛ أي: الذي يقيمُ شأنهم.
          وقال غيره: أي: يقومُ به أمر دينهم ودنياهم، أو هو سببُ انتعاشهِم في أمرِ معاشهِم ومعادهِم، يلوذُ به الخائفُ، ويأمنُ فيه الضَّعيفُ، ويربح فيه التُّجَّار، وتتوجَّهُ إليه الحجاج والعمار.
          وقال في ((الكشاف)): القوام _بالفتح_: العدلُ بين الشَّيئين، وبالكسر: ما يقامُ به الشَّيء.
          ({يَعْدِلُونَ}) أي: في قوله تعالى في أول الأنعام: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: (يَجْعَلُونَ عَدْلاً له) بفتح العين، ولأبي ذرٍّ: <مثلاً> ولغيره: بكسرها؛ أي: يجعلونَ له مثلاً، تعالى عن قولهم علوًّا كبيراً.
          وقال البيضاوي: والمعنى أنَّ الكفَّار يعدلون بربِّهم الأوثان؛ أي: يسوُّونها به، وفي الآيةِ إشكالٌ من وجهين إذا جعلت {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} معطوفةٌ على صلة الموصول.
          أحدهما: كيف عطفها ولا رابطَ للموصول.
          وثانيهما: أنه كيفَ يحمدُ الله على ذلك.
          وأجيب عن الأول: بأنَّه من إقامَةِ الظَّاهر وهو ربهم مقام المضمر، وعن الثاني.