الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب تزويج المحرم

          ░12▒ (باب: تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ) أي: نفسهُ ولو بالوكالةِ فيه، أو هو بمعنى تزوَّج، وعليهما فهو من إضافة المصدرِ إلى فاعله كما يدلُّ له الحديث، وعليه فيكون التَّقدير عنده: باب جواز تزويج المحرم، ولم يصرِّحْ بالجواز اكتفاءً بحديث البابِ وللخلاف فيه، ولا بعدمهِ؛ لأنَّه لم يثبتْ عنده النَّهي في ذلك، والأصلُ عدم الخصوصيَّة وهو أحد قولين للعلماء من الصَّحابة وغيرهم في ذلك.
          وقال في باب النِّكاح: باب نكاح المحرم، وأوردَ فيه حديثَ هذا الباب فقط، والظَّاهرُ أنَّه قائلٌ بالجواز مطلقاً، وهو مذهب عطاءٍ وعكرمةَ والثوري وأهل الكوفة.
          قال ابن بطَّال: وذهبَ الثَّوري والكوفيون إلى أنَّه يجوز للمحرمِ أن ينكحَ وينكح غيره، وهو قولُ ابن مسعودٍ وابن عبَّاس وأنس بن مالكٍ، ذكره الطَّحاوي.
          وروي أيضاً عن القاسم بن محمد والنَّخعي، وحجَّتهم حديثُ ابن عبَّاس هذا وقالوا: الفروج لا تحلُّ إلا بنكاح أبو بشراء، والأمَّةُ مجمعةٌ على أنَّ المحرمَ يملك ذلك بشراءٍ وهبةٍ وميراثٍ، ولا يبطلُ مُلكه فكذلك إذا ملكَه بنكاحٍ لا يبطلُ ملكهُ قياساً على الشراء.
          وتُعقِّب: بأنه قياسٌ في معارضةِ السُّنَّة فلا يعتبرُ به، وأمَّا تأويلهم حديثَ عثمان الآتي بأنَّ المرادَ به الوطء فهو مردودٌ بقوله فيه: ((ولا ينكح)) بضم أوله، وبقوله فيه: ((ولا يخطب)) والقولُ الآخر وهو مذهبُ الجمهور عدم صحَّة نكاح المحرم لما أخرجه مسلمٌ عن عثمان بن عفَّان قال: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((لا ينكحُ المحرمُ ولا ينكحُ ولا يخطبُ)).
          قال ابن بطَّال: اختلف الفقهاء في ذلك من أجل اختلافِ الآثار، فذهب أهلُ المدينة إلى أنَّ المحرم لا ينكحُ ولا ينكح غيره، فإن فعلَ فالنكاح باطلٌ، روي ذلك عن عمر بن الخطَّاب وعلي وزيد بن ثابت وابن عمر، وبه قال مالكٌ والليثُ والأوزاعي والشَّافعي وأحمد، وثبتَ أنَّ عمر وعليًّا وزيداً فرَّقوا بين محرمٍ وامرأة نكحَها في حالِ إحرامهِ، ولا يكونُ هذا إلا عن يقينٍ.
          قال الطَّبريُّ: والصَّواب عندنا أن نكاحَ المحرمِ فاسدٌ يجب فسخهُ لصحَّة الخبر عن عُثمان عن النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام بالنَّهي عن ذلك، وخبر ابن عبَّاس: أنَّ النَّبيَّ تزوج ميمونةَ وهو محرمٌ فقد عارضهُ فيه غيره من الصحابة وقالوا: تزوَّجها وهو حلالٌ.
          وقال سعيد بن المسيب: وهمَ ابن عبَّاس، انتهى.
          وسيأتي لكلٍّ من المذهبين مؤيدات.