الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الحجامة للمحرم

          ░11▒ (باب الْحِجَامَةِ) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الجيم؛ أي: جوازها (لِلْمُحْرِمِ) بأن يحجمهُ غيره كما يدلُّ له الحديث، وليس هو من الترفُّه المنهيِّ عنه المحرم، وأمَّا كونُ المحرم حاجماً فلا يتوهَّمُ نفي جوازها لتحتاج إلى بيانها، فافهم.
          لكن محلَّ جوازها للمحرمِ ما لم يقطعْ شعراً، ومثل الحجامةِ الفصْد وبط الجرح، والدَّمل وقطع العرق، وقلعُ الضِّرس وغير ذلك.
          قال ابن بطَّال: اختلف العلماءُ في الحجامة للمحرمِ، فرخَّص فيها عطاء ومسروق وإبراهيم وطاوس والشَّعبي، وهو قولُ الثَّوري وأبي حنيفة والشَّافعي وأحمد وإسحاق أخذاً بظاهرِ الحديث ما لم يقطعْ الشعر.
          وقال قومٌ: لا يحتجمُ المحرمُ إلا من ضرورةٍ، لكن إن حجمَ محرماً فإن كان بإذْنهِ فلا شيءَ على الحاجم مطلقاً، وإن كان بغير إذْنه فعليه الفدية إن أزالَ منه شعراتٍ كما في الحلقِ له، روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك.
          وتقديرُنا الجوازَ أولى من تقدير ((الفتح)) و((العمدة)) أي: هل يمنعُ منها المحرمُ أو تباحُ له مطلقاً أو للضرورة، انتهى فتأمَّله.
          ثمَّ قال: وإن لم يحلقْ المحتجم شعراً فهو كالعرق يقطعهُ أو الدمل يبطُّهُ أو القرحة ينكأوها ولا شيءَ عليه عند جماعةِ العلماء، انتهى.
          ومثلهُ في العيني وزاد: وعن الحسنِ البصريِّ عليه الفديةُ.
          وقال ابن التِّين: الحجامة: ضرْبان موضعٌ يحتاجُ إلى حلقِ الشَّعر فيفتدى من فعله، وموضعٌ يحتاجُ إلى حلقٍ في غير الرَّأس فيفتدِي.
          وقال عبدُ الملك: شعر الرأسِ والجسدِ سواءٌ، وبه قال أبو حنيفة والشَّافعي. وقال أهلُ الظَّاهر: لا فديةَ عليه إلا إن حلقَ رأسهُ، انتهى.
          (وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب (ابْنَهُ) واسمه: واقد (وَهُوَ مُحْرِمٌ) جملة حاليَّة.
          وهذا التَّعليق وصله سعيد من منصُور من طريق مجاهد قال: أصابَ واقد بن عبد الله بن عمر برسامٌ في الطَّريق وهو متوجِّهُ إلى مكَّة، فكواهُ ابن عمر.
          وقوله: (وَيَتَدَاوَى) أي: المحرمُ بأيِّ شيءٍ كان (مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ) أي: في الشَّيء الذي يتدواى به (طِيبٌ) ليس من تتمَّةِ أثرِ ابن عُمر.
          قال العينيُّ: وليس من الترجمة لفصلِ أثر ابن عُمر بينهما، وردَّه في ((الانتقاض)): بأن البخاريَّ يفعلُ مثل هذا فيفصل بين الترجمة وما يتعلَّقُ بها من ترجمةٍ أخرى بأثرٍ، وأمَّا قول الكرمانيِّ والبرماويِّ فاعل يتداوى إما للمُحرم، وإمَّا ابن عمر.
          فقد اعترضهُ في ((الفتح)) فقال: هذا كلامُ من لم يقفْ على أثرِ ابن عمر، ثم قال: والجامعُ بين هذا وبين الحجامة عموم التَّداوي، ويناسبُ هذا ما سبقَ أوائل الحجِّ عن ابن عبَّاس أنَّه قال: يشم المحرم الريحان، وينظرُ في المرآة، ويتداوى بما يأكلُ من الزَّيت والسَّمن، ويناسبهُ ما رواه الطَّبريُّ عن الحسنِ قال: إن أصابَ المحرمُ شجة فلا بأسَ أن يأخذَ ما حولها من الشَّعر، ثم يداويها بما ليسَ فيه طيبٌ.