التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب سؤال المشركين أن يريهم النبي آية فأراهم انشقاق القمر

          ░27▒ (بَابُ سُؤَالِ المُشْرِكِينَ أَنْ يُرِيَهُمُ النَّبِيُّ صلعم آيَةً، فَأَرَاهُم انْشِقَاقَ القَمَرِ)
          ذكر فيه ثلاثة أحاديثَ:
          3636- أحدها: حديثُ ابن أبي نَجِيْحٍ عبدِ اللهِ بن يَسَارٍ المكَّيِّ: (عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) عبدِ اللهِ بنِ سَخْبَرةَ الكوفيِّ مولى الأَخْفَش الثَّقَفِيِّ (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ☺ قَالَ: انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم شِقَّتَينِ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: اشْهَدُوا).
          وسيأتي له متابعةٌ في التفسير في سورة القمر [خ¦4864].
          3637- ثانيها: حديثُ أنسٍ ☺: (أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلعم أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ القَمَرِ).
          3638- ثالثها: حديثُ ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّ القمرَ انشقَّ في زَمَانِ رسولِ اللهِ صلعم.
          هذه الثلاثة الأحاديث ذكرها بعدَ إسلام عُمَرَ قريبًا وترجم عليها باب: انشقاق القمر [خ¦3869]، وقال هناك: وقال أبو الضُّحَى _وهو مُسْلِمُ بن صُبيحٍ_ عن مَسْرُوقِ عن عبدِ اللهِ: انشقَّ بمكَّةَ، قال: وتابعَه مُحَمَّد بن مُسْلمٍ، عن ابنِ أَبي نَجِيْحٍ عن مُجَاهِدٍ، عن أبي مَعْمَرٍ عن عبدِ اللهِ. وهذه المتابعة أخرجَها البَيْهَقيُّ مِن حديث عبد الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا ابن عُيَيْنةَ ومُحَمَّد بن مسلمٍ عن ابن أبي نَجِيْحٍ به بلفظ: رأيتُ القمرَ منشقًّا شِقَّتَين مرَّتين بمكَّةَ، شِقَّةٌ على أبي قُبَيسٍ، وشِقَّةٌ على السُّوَيْدَاءِ. وقد رُوِيَ حديثُ انشقاق القمر أيضًا مِن طُرقٍ أُخرَ:
          منها عن ابن عُمَرَ: فِلْقةٌ مِن دون الجبل، وفِلْقةٌ مِن خلفهِ. وفي حديث ابن عبَّاسٍ: فكانت فِلْقةٌ على الجبل، وفِلْقةٌ على أبي قُبَيسٍ.
          ومنها جُبَيرُ بنُ مُطْعِمٍ، وفيه: فِرْقةٌ على هذا الجبل، وفِرْقةٌ على هذا الجبل، فقالوا: سَحَرنا مُحَمَّدٌ، فقال: بعضُهم: إن كان سَحَرَنا فإنَّه لا يستطيع أنْ يسحرَ النَّاسَ كلَّهم، وذلك بمنًى، فرأيتُ الجبل بين فرجتي القمرِ، وعن الضَّحَّاك: فقال أبو جُهْلٍ: هذا سَحَرَنا، فابعثوا إلى الآفاق حتَّى تنظروا أرأوا ذلك أم لا، فأخبرَ أهل الآفاق أنَّهم رأوه مُنشقًّا فقال: الكفَّارُ: هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌ.
          ومنها: عليٌّ: انشقَّ ونحنُ معه، وفي حديث أنسٍ في باب انشقاق القمر [خ¦3868] مِن البخاريِّ: حتَّى رأوا حِرَاءَ بينهما، وفي روايةٍ: أَراهُم القمرَ مرَّتين مِن انشقاقِهِ فنزلت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ} [القمر:1].
          ومنها: حديث حُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ: ولا شكَّ في ذلك ولا مِرْيةً، وفي رواية ابن مسعودٍ: هذا سِحرُ ابن أبي كَبْشَةَ، فَسَلُوا السُّفَّار يَقدمون عليكم، فإن كان مثل ما رأيتم فقد صَدَق، وإلَّا فهو سِحْرٌ، فَقَدِمَ السُّفَّار فسألوهم فقالوا: رأيناه قد انشقَّ. وسيأتي ذكره في التفسير.
          وأيضًا لا شكَّ في عِظَمها، بل لا يكادُ يَعدِلُها شيءٌ مِن آيات الأنبياء؛ لأنَّه أمرٌ ظاهرٌ في الأملاك العُلوية خارجٌ مِن جملة طِبَاع ما في هذا العالم المركَّبِ مِن الطَّبائع، فيَطبع في مثله بحيلةٍ وعِلاجٍ وتأليفٍ وتركيبٍ ونحوها من الأمور التي يتعاطاها المُحتالون ويتصنَّعُ بها المتكلِّفُون، فلذلك صار الخَطْبُ فيه أعظمَ، ولا عِبرة بمن أنكرَ ذلك مُعَلِّلًا بأنَّه لو كان ذلك حقيقةً لم يَجُز أن يخفى أمره على العوامِّ، ولتواترات بذلك الأخبار، لأنَّه أمرٌ مصدَرُه عن حسٍّ ومُشاهدةٍ والنَّاس فيه شركاءُ، وهم مُطَالبون بنقل الغَريب والأمر العَجيب، فقد قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] لا يُقَال: إنَّ الماضي المراد به المستقبل لأنَّه لا يُرَدُّ إليه إلا بدليلٍ. وقد قال عَقِيبه: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} [القمر:2]، وهذا لا يكون في القيامة، وهذا ليس باب قياسٍ لا سيَّما وقد طلبه جماعةٌ خاصَّةً فأراهم ذلك مع كثرة النَّاس، هذا الكُسُوف يطرأ ولا يشعر به كثيرٌ مِن النَّاس.
          وقوله: (إنَّ أهلَ مكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلعم) يريد كُفَّار قُرَيْشٍ.