التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب مناقب قريش

          ░2▒ (بَابُ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ).
          ذكر فيه أحاديث:
          3500- أحدها: حديث الزُّهْرِيِّ قَالَ: (كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاِوَيَة _وَهْوَ عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ_ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ فَقَامَ فَأَثنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يُحدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، وَلَا تُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم فَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَالأَمَانِيَّ التِي تُضِلُّ أَهْلَهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ، لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ).
          الشرح: هذا الحديث يأتي في الأحكام أيضًا كما ستعلمُهُ [خ¦7139]، و(قَحْطَانَ) أبو اليَمَن، وإنكار مُعَاويَةَ عليه لأنَّه حمل حديثه على ظاهره، وقد يخرج قَحْطَانيٌّ في ناحيةٍ مِن نواحي الإسلام متغلِّبًا لا خليفةً، ويُحْمَل حديث مُعَاويَةَ على الأكثر ولهذا قال: (الأَمْر فِي قُرَيْش) يعني الخلافةَ.
          وقد ذكر البخاريُّ بعد هذا [خ¦3517] حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: ((لَا تَقومُ السَّاعةُ حتَّى يخرجَ رَجُلٌ مِن قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بعَصَاهُ))، وفي التِّرْمذيِّ مصحَّحًا وقْفُهُ: ((الملْكُ في قُرَيْش، والقَضَاءُ فَي الأَنْصَارِ، والأَذَانُ في الحَبَشَةِ، والأمانة في الأَزْدِ)). يعني: اليمن.
          ومعنى: (وَلَا تُؤْثَر) أي لا تُروى، و(الأَمَانِيَّ) بمعنى التِّلاوة، وأنشدوا: /
تَمَنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ ليلةٍ                     وآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ المَقَادِر
          نبَّه عليه ابن الجوزيِّ، وقال ابن التِّين: معناه ولا تذكر، كأنَّ المعنى: إيَّاكم وقراءة ما في الصُّحف التي تُؤثر عن أهل الكتاب ما لم يأتِ به الشارع، فكأنَّ ابن عَمْرٍو قرأ التوراةَ ويَحكي عن أهلها لا أنَّه حدَّث به عن الشارع، إذ لو حدَّث عنه لَمَا استطاع أحدٌ ردَّهُ لأنَّه لم يكن مُتَّهَمًا.
          وقوله: (إِلَّا كَبَّهُ اللهُ) هذا الفعل مِن الشواذِّ لأنَّ الفعل تُعَدِّيهِ الهمزةُ وهذا الفعل ثلاثيُّه مُتعدٍّ ورباعيُّهُ لازمٌ، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك:22].
          وقوله: (مَا أَقَامُوا الدِّينَ) قيل: يحتمل إن لم يقيموه فلا يُسْمَع لهم، وقيل: يحتمل أَلَّا يقَام عليهم وإن كان لا يجوز بقاؤهم، ذكرهما ابن التِّين، قال: وقد أجمع على أنَّه إن دعا إلى كُفْرٍ أو بِدعةٍ أنَّه يُقَام عليه، وإن غَصَبَ الأموال وانتهك الحُرَم فاختُلِف هل يُقَام عليه مع الآمر؟ فقال الأَشْعريُّ مرَّةً: نعم، ومرَّةً: لا.
          قيل: وليس في حديث مُعَاوِيَة ما يَرُدُّ حديث عبد الله، وإنما أراد ◙ أنَّهم أحقُّ بهذا الأمر ولم يُرِد أنَّه لا يوجد في غيرهم، وظاهر الحديث خلاف هذا لأنَّه خبرٌ لقوله: ((لَا يَزالُ...)) إلى آخره، و(إنَّ هذا الأمرَ في قُرَيْش...) إلى آخره، يريد: لا يُسمَّى غيرهم بالخليفة إلَّا غلبٌ وقهرٌ، وإخباره صِدقٌ.
          فَصْلٌ في قُرَيْشٍ واشْتِقَاقِهم:
          قال الزُّبَيْر عن عَمِّهِ: أمَّا بنو يَخْلُدِ بن النَّضْر فَهُم في بني عَمْرِو بن الحارثِ بن مالكِ بن كِنَانَة، ومنهم قُرَيْش بن بدرِ بن يَخْلُدَ بن النَّضْر وكان دليلَ بني كِنَانَة، فكان يُقَال: قَدِمت عِيرُ قُرَيْشٍ فسُمِّيت قُرَيْشٌ به، وأبوه بدرُ صاحب بدر الموضع، وعن غيره: قُرَيْش بن الحارث بن يَخْلُدَ وابنه بدر الذي احتفرَ عينَ بدرٍ، قال: وقد قالوا: اسمُ فِهْر بن مالكٍ: قُرَيْش، وما لم يلد فِهْر فليس مِن قُرَيْش، وقال عمِّي: فِهْر هو قُرَيْشٌ اسمه وفِهْرٌ لقبُهُ، وكذلك حدَّثَني الُمَؤمِّلِيُّ عن عُثْمَانَ بن أبي سُلَيمانَ في اسم فِهْر بن مالكٍ أنَّه قُرَيْش، وعن ابن شِهَابٍ: اسم فِهْر الذي أسمتْهُ أُمُّهُ قُرَيْش، وإنَّما نبزته بهذا كما يُسَمَّى الصَّبيُّ غَرَارةً وشَملةً وأشباه ذلك.
          قال: وقد أجمع النُّسَّابُ مِن قُرَيْشٍ أنَّ ولد فِهْر بن مالك قُرَيْش، وأنَّ مَن جاوز فِهْرًا بنسبه فليس بِقُرَشيٍّ قال: وقد ذكر هِشَامٌ الكلبيُّ أنَّ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ هو قُرَيْش، وقال في موضعٍ آخرَ: ولد مالك بن النَّضْر فِهْرًا وهو جِمَاعُ قُرَيْشٍ.
          قلت: وهذا هو المذكور في «جمهرته» و «جامعه»، قال ابن عبد البرِّ: وهو أصحُّ الأقاويل في النِّسبة لا في المعنى الذي مِن أجله سُمِّيت قُرَيْش قُرَيْشًا، والدليل على صِحَّتِه أنَّه لا يُعلم اليوم قُرَشيٌّ في شيءٍ مِن كُتب أهل النَّسَب ينسب إلى أبٍ فوق فِهْر دون لقاء فِهْرٍ، فلذلك قال أهل هذا الشأن مصعبُ والزُّبَيْرُ وغيرُهما: أنَّ فِهْرًا جِمَاعُ قُرَيْش، وذكر أبو عبد الله العَدَويُّ أنَّ جِمَاعَ قُرَيْشٍ كلِّها فِهْرٌ والحارثُ ابنا مالك بن النَّضْر، وعن الشَّعْبيِّ: النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ هو قُرَيْشٌ، وهو قول ابن إسحاقَ وغيره، كأنَّهم تمسَّكُوا بحديث الأشعث بن قيسٍ لَمَّا قال للنَّبيِّ صلعم: ألستم منا؟ قال: ((لَا، نَحنُ بَنو نَضْرِ بن كِنَانَة لا نَنْتَفِي مِن أَبينا))، ذكره الواقدِيُّ، وعن أبي عُبَيْدَةَ قال: مُنتهى مَن وقع عليه اسم قُرَيْشٍ النَّضْر، فولدُهُ قُرَيْشٌ دون سائر بني كِنَانَة، فأمَّا مَن كان مِن ولد كِنَانَة فلا يُقال لهم قُرَيْشٌ.
          وفي تسميتها بذلك أقوالٌ:
          أحدها: لأنَّه كان يُقَرِّشُ عَنْ خَلَّةِ النَّاسِ وَحَاجَتِهِمْ فَيَسُدُّهَا بمالِهِ، والتَّقريشُ: التَّفتيشُ، وكان بَنُوهُ يَقْرُشُونَ أَهْلَ الْمَوْسِمِ عَنِ الْحَاجَّةِ فَيَرْفِدُونَهُمْ بِمَا يُبَلِّغُهُمْ بِلَادَهُمْ فَسُمُّوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَقَرْشِهِمْ قُرَيْشًا.
          ثانيها: لتجمُّعِهِم، قال أبو عُبَيدةَ: سُمِّيَ بنو النَّضْر قُرَيْشًا لتجمُّعِهِم، لأنَّ التَّقَرُّشَ هو التَّجَمُّعُ.
          ثالثها: للتِّجَارة يَتَقَارَشُون يتَّجِرون، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قُرَيْشًا لم يجتمعوا حتَّى جمعهم قصيُّ بن كِلابٍ، ولم يجمع إلَّا ولدَ فِهْر، ولَمَّا سأل عبدُ الملك بن مروانَ مُحَمَّدَ بن جُبَيرِ بن مُطْعِمٍ عن ذلك فأجابه بتجمُّعِهِم إلى الحرم بعد تفرُّقِهم، فذلك الجمعُ التقرُّش، فقال عبد الملك: ما سمعتُ بهذا، ولكنِّي سمعتُ قُصَيًّا كان يُقَال له: القُرَشيُّ، ولم يُسمَّ أحدٌ قُرشيًّا قبلَه. وقيل: جاء النَّضْر يومًا إلى قومه في ثوبٍ له، فقالوا: قد تقرَّشَ في ثوبه، وقيل: بل جاء إلى قومه فقالوا لَمَّا رأوه: كأنَّهُ جَمَلٌ قَرِيشٌ، والقَرْشُ: الشَّديد.
          وقال صاحب «النَّجْم الثاقب» في فضائلهم عن ابن أبي الجَهم: كان النَّضْر يُسمَّى القُرَشيُّ، وقال أبو اليَقْظَان: سُمُّوا بذلك لأنَّهم كانوا يتقرَّشُون في البِيَاعَات، وقال الواقديُّ: لَمَّا جمع قصيٌّ قومَه قيل له: القُرَشيُّ، فهو أوَّلُ مَن سُمِّي بذلك، وقال مُحَمَّد بن سلَّامٍ: لَمَّا جمع قصيُّ قبائلَ النَّضْر وحاربَ بهم خُزَاعَةَ وغلبَ على الحَرَم سُموا قُرَيْشًا؛ لاجتماعهم، قال الفَضْلُ بنُ عَبَّاسٍ:
نَحنُ كُنَّا خُضَّارَهَا مِن قُرَيْشٍ                     وبِنَا سُمِّيتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشا
          وفيه قول آخرُ: قال ابن الأنباريِّ: التَّقريشُ هو التَّحْرِيشُ، وردَّهُ الزَّجَّاجِيُّ في «مختصر الزَّاهر» وقال: إنَّه ليس بمعروفٍ؛ لأنَّ المعروف في اللُّغة أنَّ التَّرَقُّشَ بتقديم الرَّاء على القاف هو التَّحْرِيش لا التَّقْرِيش، قلت: في «المحكم» أَقْرَشَ به وَقَرَّش: وشَى وحرَّشَ. وفيه قولٌ آخر: قال أبو عمر المُطَرِّز: قُرَيْش مأخوذٌ مِن القَرَش؛ وهو رفع الأَسِنَّةِ على بعضٍ لأنَّهم أحذقُ النَّاس بالطِعَان، وفيه قولٌ آخر: قال ابن عبَّاسٍ فيما أخرجه ابن أبي شَيْبةَ: سُمُّوا بدابَّةٍ في البحر تُسمَّى قُرَيْشًا هي مَلِكةُ الدَّوابِّ وسيِّدَتُها وأشدُّها، إذا وقفت وقفت، وإذا مَشَت مَشَت، فكذلك قُرَيْش سادات النَّاس، وأنشدَ:
وقُريشٌ هي التِي تسكُن البَحـْ                     ـرَ بِهِ سُمِّيَتْ قُرَيشٌ قُرَيشا
          وفيه قولٌ آخرُ: قال القزَّاز في «جامعه»: إنَّه مِن تقرَّشَ الرجلُ إذا تنزَّه عن رذائل الأمور، وقولٌ آخرُ: قال ابن سِيْدَه: القُرَشِيَّةُ: حِنْطَةٌ صُلْبةٌ في الطَّحن خَشِنةُ الدَّقِيق، فيُحْتَمل أن تكون قُرَيْش منها لصَلابتها وخُشُونتها وشِدَّتها، أو مِن تقرَّش الشيءُ إذا أخذَه أوَّلًا فأوَّلًا، وكذلك قُرَيْشُ يأخذون مَن ناوأَهم بحسنِ تدبيرٍ ورِفْقٍ، أو مِن أقرشَ الرجلُ إذا أخبره بعيوبِه، فكأنَّهم يُنكرون المنكرَ ويَعرفون المعروف.
          قال سَيْبَويهِ: وممَّا غَلب على الحيِّ قُرَيْشٌ، وإن جعلتَ قُرَيْشًا اسمَ قبيلةٍ فَعَربيٌّ، وقال الشاعر:
وجَاءَتَ مِن أَبَاطِحِهَا قُرَيشٌ                     كَسَيْلِ أَتِيِّ بِيشَةَ حيِنَ سَالَا
          قال ابن سِيْدَه: عندي أنَّه أراد قُرَيْشُ غير مصروفٍ، لأنَّه عَيَّنَ القبيلةَ، أَلَا تراه قال: جاءت فأنَّث، ويجوز أن يكون أراد: وجاءت مِن أباطِحِها جماعةُ قُرَيْشٍ فأسندَ الفعل إلى الجماعة، فقُرَيْش على هذا مذكَّرٌ اسمٌ للحيِّ، والنَّسَب إليه قُرَيشيٌّ على القياس وقُرَشِيٌّ نادر.
          فائدة: كانت لقُرَيْشٍ في الجاهليَّة مكارمٌ منها: السِّقَاية والعِمارة والرِّفَادة والعُقاب والحِجَابة والنَّدْوة واللِّواء والمَشُورة والأَشْنَاق والقُبَّة والأَعِنَّة والسِّفَارة والإِيْسَار والحُكُومة والأموال المحجَّرة، وكانوا ينتمون إلى الله وجيرانه، وفيه يقول عبد المطَّلِب بن هاشِمٍ:
نَحنُ إلَى اللهِ في ذِمَّتِهِ                     لَم نَزَلْ فِيهَا عَلَى عَهدِ إبْرَهَمْ
لم تَزَلْ لله فِينَا حُرمَةٌ                     يَدفَعُ اللهُ بهَا عنَّا النَّقَمْ
          فائِدَةٌ: روى التَّاريخيُّ بإسناده مِن حديث عَبيْدَة عن عليٍّ أنَّه قال: مَن كان سُئِل عن نسبنا فإنَّا نبطٌ مِن أهل كُوثَى ربَّى، ومِن حديث مجاهدٍ / عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال لقومٍ مِن تميمٍ: أنتم نبطٌ مِن أهل كُوثَى، إنَّ أبا إبراهيمَ كان منها. ومِن حديث أبي العُريان عن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: إنَّا معاشِرَ قُرَيْشٍ حيٌّ مِن النَّبَطِ مِن كُوثَى، وكُوثَى هذه مكَّةُ. وقال الكلبيُّ: كُوثَى جدُّ إبراهيم أبو أُمِّهِ نُوْبا بنت كَرْنَبَا بن كُوثَى مِن بني أَرفخْشَد، وهو أوَّلُ مَن جندب بهم كُوثى، وعن قَتَادةَ قال: هاجر إبراهيمُ ولوطُ مِن كُوثَى إلى الشَّام، ومِن كُوثَى إلى برتقبا ستَّةُ أميالٍ، ومنها إلى القصر تسعةٌ يريد قصرَ ابن هُبَيْرة.
          فصل: لَمَّا خرَّج البخاريُّ الحديثَ الأوَّل وهو حديث مُعَاوِيَة في الأحكام [خ¦7139] عن أبي اليَمَان قال: تابعه نُعَيمٌ عن ابن المبارك عن مَعْمَرٍ عن الزُّهريِّ، ومتابعة نُعيمٍ هذه رواها نُعَيمُ بن حمَّادٍ في كتاب «الفتن»، وفيه أيضًا مِن حديثه عن أبي اليَمَان عن جرَّاحٍ عن أَرْطَأة قال: بعد المهْدِيِّ رجلٌ مِن قَحْطَان مثقوبُ الأُذُنين على سيرة المهدِيِّ، حياته عشرون سنةً ثمَّ يموت قتيلًا بالسِّلاح، ثمَّ يخرج رجلٌ مِن أهل بيت أحمدَ حسنُ السِّيرة، يفتح بمدينة قَيْصرَ، وهو آخِرُ أميرٍ مِن أُمَّة أحمدَ، ويخرج في زمانهِ الدَّجَّالُ وينزل في زمانه عيسى، وفي لفظٍ: أميرُ العُصَبِ يمانٍ. وفي لفظٍ: على يَدَي ذلك الخليفة اليَمَانيِّ الذي يَفتح القُسْطَنْطِيْنيَّةُ ورُومِيَّةُ، ويخرج الدَّجَّالُ في زمانه، وعلى يديه يكون غَزوُ الهند.
          وروى رِشْدِينُ والوليدُ عن ابن لَهِيعةَ حَدَّثَنَا عبدُ الرَّحمنِ بن قيسِ بن جَنَابٍ الصَّدَفِيُّ، عن أبيه عن جَدِّهِ مرفوعًا: ((يكونُ بعدَ المهْدِيِّ القَحْطَانيُّ، والذي بعثَني بالحقِّ مَا هُو دُونَه))، وعن ابن عبَّاسٍ وذكر الخلفاءَ ثمَّ قال: ورجلٌ مِن قَحْطَانَ لا يُرى مِثلُهم، كلُّهم صالحٌ. وعن عبد الله بن عَمْرو مثله قال: ورجلٌ مِن قَحْطَانَ، منهم مَن لا يكون إلَّا يومين. وعن كعبٍ أنَّ اليمنَ تجتمع لمبايعة رجلٍ لقتال قُرَشيٍّ ظالمٍ ببيت المقدس، فبينا هُم يقولون: نُبايع فلانًا، إذ سمعوا صوتًا مَا قالَه إنسٌ ولا جانٌّ: بايعوا فلانًا _باسمه لهم_ فإذا هو رجلٌ قد رَضُوا به وقنعت به الأنفسُ ليس مِن ذي ولا ذو، وفي ولايته تَقتتلُ قُضَاعةُ بحمصَ وحِمْيَرُ.
          فَصْلٌ: أسلفنا أنَّ قَحْطَان أبو اليمن، وهو يَقْطَانُ بن عابَرَ، ويُقَال: عَيبرَ بنِ شالَخَ بن أَرفخْشَد بن سَامِ بن نُوحٍ، وهو أبو اليَمَن كلِّها وجِذْمُ نَسَبِها ومَوئِلُ حسبِها ووالدُ العرب المتعرِّبَةِ، إذ العرب ثلاثُ فرقٍ: عاربةٌ، ومُتَعرِّبةٌ، ومُسْتَعربةٌ.
          فالأولى تسعُ قبائلَ مِن ولد إرَمَ بن سَامِ: عادٌ وثَمُودُ وأَميمُ وعسْلُ وطَسْمُ وجَدِيسُ وعِمْلِيقُ وجُرْهُمُ ووبَارُ، والثانية بنو قَحْطَان، والثالثة بنو إسماعيلَ.
          وزعمتِ العرب أنَّ قَحْطَان ولد يَعْرُب، وإنَّما سُمِّيتِ العربُ به، وأنَّه أوَّلُ مَن تكلَّم بالعربيَّةِ، ونزل أرضَ اليمن، وزعم السُّهَيْلِيُّ أنَّ اسمَ قَحْطَان: مُهَرِّم بن عابرٍ، وقيل: هو ابن عبد الله أخو هُوْدٍ، وقيل: هو هُوْدٌ نفسُهُ، فهو على هذا ابن إرَمَ بن سامِ، وكانوا أربعةَ إخوةٍ: قَحْطَانُ وقاحِطُ ومُقْحِطُ وفالَغُ. قال: وقَحْطَانُ أوَّلُ مَن قيل له: أبيتَ اللَّعن، وأوَّلُ مَن قيل له: عِمْ صَبَاحًا.
          وقال ابن دِحْيةَ: مَن قال إنَّ قَحْطَان مِن ولد هُودٍ فهو باطلٌ لقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65] يعني: أخاهم في النَّسَب، ثمَّ قال: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8] وَهُودٌ مِن عادٍ ولا نرى باقيةً لعادٍ، وإنَّما ادَّعت اليمن هُودًا أبًا حين وقعتِ العصبيَّةُ وفخرت مُضَرُ بأبيها إسماعيلَ، فادَّعت اليمنُ عند ذلك هُودًا أبًا ليكون لهم أبٌ في الأنبياء. وذكر عبدُ الدَّائم القَيروانيُّ في كتابه «حُلَى العُلى» أنَّ قَحْطَان هو ابن الهَمَيْسع بن تَيْمَن بن نَبْت بن إسماعيلَ، قال: كذا نسبه الكلبيُّ، وسائر اليمن يأبَونَ ذلك وينسبونه إلى عابَرَ.
          قلت: الذي في «الجمهرة» و«الجامع»: قَحْطَانُ بن عابَرَ فقط، وفي «التِّيجان» لابن هِشَامٍ: كان قَحْطَانُ خليفةَ أبيه هُودٍ ووصيَّهُ وتُوفِّيَ بمأْرِب، وأوصى إلى ابنه يَعْرُبَ، وفي «جامع» القزَّاز قال بعض النُّسَّاب: قَحْطَان بن أَرفخْشَد بن سَامِ بعد ذكر نسبه المذكور أوَّلًا، فقد يُقَال: تعلَّقُوا بظاهر حديث البخاريِّ الآتي بعدُ [خ¦3507] والسابق في الجهاد [خ¦2899]: ((ارمُوا بَني إسماعيلَ)) فإنَّهم مِن الأزْد ثمَّ مِن قَحْطَانَ، ولا شكَّ أنَّ العربَ قد اختلطت بالصُّهوريَّةِ، فالقَحْطَانيَّةُ لإسماعيلَ بالأُمَّهاتِ، والنِزاريَّةُ أبناء لقَحْطَانَ بهنَّ، كما نسب الله عيسى إلى آباء أُمَّهِ فقال: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ...} [الأنعام:84] إلى أن قال: {وَعِيسَى} [الأنعام:85]، وكذلك العَلَويُّون لا يُقَال لأحدِهم إلَّا: يا ابنَ رسول الله، وقد قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40]، على أنَّ ابن عَدِيٍّ روى حديثًا ضعيفًا مرفوعًا: ((العربُ كلُّها مِن ولد إسماعيلَ إلَّا...)).
          وفي «لطائف المعارف» لأبي يُوسُفَ: ما على الأرض عربيٌّ إلَّا وهو مِن ولد إسماعيلَ إلَّا الأَوْزَاعَ وحَضْرَمُوتَ وثَقِيفَ. وذكر أبو عليِّ بن مِسْكَوَيْه في «تجارب الأُمَمِ» عن يُونُسَ النَّحْويِّ: ما ارتكض قَحْطَانُ في رحمٍ قطُّ ولا جرى له ذِكرٌ على لسان أحدٍ إلَّا بعد أن قصدوا لذلك، وهو غريبٌ. واشتقاقه مِن قولهم: شيءٌ قَحِيطٌ أي: شديدٌ، وقيل: أصله الذي تعرفه العامَّةُ الشدَّة، كأنَّ الأرضَ اشتدَّت عليهم فلم تُنْبِت، وكأنَّ السماء اشتدَّت عليهم فلم تُمطَر. قال صاحبُ «المحكم»: والنسبة إليه قَحْطَانيٌّ على القياس، وقال غيره: القياسُ أَقْحَاطِيُّ، وكِلَاهما عربيٌّ فصيحٌ.