التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب

          ░16▒ (بَابُ: مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَةِ عَلَى أَحْيَاءِ العَرَبِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ
          وَقَالَ ابْنُ عبَّاسٍ: عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_: أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ الله، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَشْتَرِطُ المُعَلِّمُ، إِلَّا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا فَيَقْبَلْهُ، وَقَالَ الحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ المُعَلِّمِ، وَأَعْطَى الحَسَنُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيْرِيْنَ بِأُجْرَةِ القَسَّامِ بَأْسًا وَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ، وَكَانُوا يُعْطَوْنَ عَلَى الخَرْصِ).
          2276- ثُمَّ ساق حديثَ أبي سعيدٍ في الرُّقية بالفاتحة وقال: (اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا). (وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنا أَبُو بِشْرٍ، سَمِعْتُ أَبَا الْمُتَوَكِّلِ، بِهَذَا).
          الشَّرح: سقط في بعض النُّسخ مِنْ هذه التَّرجمة لفظُ: (عَلَى أَحْياَءِ العَرَبِ) لأنَّ الحكم لا يختصُّ به، وعلى إثباتها سببُه أنَّ الواقعة وقعت فيهم، وتعليقُ ابن عبَّاسٍ يأتي مسندًا، وهو حُجَّةٌ على الحنفيَّة والزُّهريِّ وإسحاق والحسن بن حيٍّ في عدم الأخذ، وادَّعى بعضُهم نسخَهُ بحديث القوس المهداة الآتي، وهو عجيبٌ.
          وأثرُ الشَّعْبِيِّ رواه ابن أبي شَيْبَةَ، عن مروانَ بنِ معاويةَ، عن عثمانَ بنِ الحارث عنه، قال: وحَدَّثَنا وَكِيْعٌ، حَدَّثَنا سفيانُ، عن أيُّوبَ بن عائذٍ الطَّائيِّ عنه به.
          وأثرُ الحكم رواه ابن أبي شَيْبَةَ: حَدَّثَنا يزيدُ بن هارونَ، أخبرنا شُعبة عنه به.
          وأثرُ الحسن قال ابن أبي شَيْبَةَ: حَدَّثَنا حفصٌ عن أشْعثَ عنه: لا بأس أن يأخذَ على الكتاب أجرًا، وكره الشَّرط، وأثر ابن سِيْرِيْنَ قال أيضًا: حَدَّثَنا وَكِيْعٌ، حَدَّثَنا همَّامٌ، عن قَتادة، عن يزيدَ الرِّشْكِ، عن القاسم قال: قلت لابن المسيِّب: ما ترى في كسب القسَّام، فكرهه، قلتُ: إني أعملُ فيه حَتَّى يعرق جبيني، فلم يرخِّصْ لي، قال قَتادة: وكان الحسن يكره كسبَه، قال قَتادة: وقال ابن سِيْرِيْنَ: إن لم يكن خبيثًا فلا أدري ما هو؟
          وحديث أبي سعيدٍ أخرجه مسلمٌ والأربعة، والتَّعليق الأخير أسندَه التِّرْمِذِيُّ عن محمَّد بن المثنَّى، عن عبد الصَّمد بن عبد الوارث، عن شُعبة به، ثُمَّ قال: صحيحٌ وهو أصحُّ مِنْ حديث الأعمش، عن أبي بشرٍ عن أبي نَضْرَةَ، ورواه النَّسائيُّ عن زياد بن ميمونٍ عن هُشَيمٍ، وعن بُنْدارٍ عن غُنْدَرٍ عن شُعبَة، جميعًا عن أبي بشرٍ به، وفي ابن ماجَهْ: بعثَنا النَّبِيُّ _صلعم_ في ثلاثين راكبًا. وفي النَّسائيِّ: وذَلِكَ ليلًا. وسيأتي عند البخاريِّ عن ابن عبَّاسٍ: فانطلق رجلٌ منهم فقرأ بفاتحةَ الكتاب على شاءٍ، فجاء بالشَّاءِ إلى أصحابِه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذتَ على كتابِ الله أجرًا؟!.
          وادَّعى ابن العربيِّ اضطرابَه، ففي روايةٍ: أنَّ أبا سعيدٍ قرأ ورقى، وفي أخرى: أنَّ غيره الرَّاقي. قلتُ: الَّذي فيه أنَّه الرَّاقي، وفي روايةٍ: أنَّ رجلًا رقى، كنَّى به عن نفسِه، فلا اضطراب، ولا يعارَض هذا بحديث القوس الَّتِي أُهديت لعُبادةَ لَمَّا عَلَّمَهُ سورةً، وقولُه له: ((إن كنتَ تحبُّ أن تطوَّقَ بها طوقًا مِنْ نار فاقبلها)) أخرجه أبو داود مِنْ حديث المُغيرةِ بن زيادٍ عن عُبادةَ عن الأسودِ بن ثَعلبةَ عن عُبادةَ، وأين هو مِنْ هذا؟ المغيرةُ ضعيفٌ، وكذا قولُه لأُبَيِّ بن كعبٍ: ((إن كان شيءٌ يتحفك به فلا خير فيه)) أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ. وقال الجَوْرَقانِيُّ في «موضوعاته»: إنَّه باطلٌ بسبب عبد الرَّحمن بن أبي مسلمٍ وأبي عبيدة بن فُضيل بن عِياضٍ. وهما ضعيفان، قال: وكذا حديث عُبادة حديثٌ باطلٌ بسبب ابن المُغيرة، فإنَّه منكَر الحديث.
          قلتُ: وكذا حديث أبي الدَّرداء مرفوعًا: ((مَنْ أخَذَ على تعليم القرآن قوسًا قلَّده الله مكانَها قوسًا مِنْ نارٍ)) أخرجه سَمَّوَيْهِ في «فوائده». وقد أخرجها ابن الجوزيِّ في «علله»، وكذا قولُ عبد الله بن شقيقٍ: فكره أرْشَ المعلِّم، فإنَّ أصحاب رَسُول الله _صلعم_ كانوا يكرهونه ويرَونه شديدًا، وقول إبراهيم النَّخَعيِّ: كانوا يكرهون أن يأخذوا على الغلمان في الكُتَّابِ أجرًا.
          وروى أحمد والطَّحاويُّ مِنْ حديث عبد الرَّحمن بن شبلٍ الأنصاريِّ مرفوعًا: ((تعلَّموا القرآنَ، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به)).
          وروى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حديث عِمران بن حُصَينٍ مرفوعًا: ((اقرؤوا القرآن وسلوا الله به فإنَّ مِنْ بعدكم قومٌ يقرؤون القرآن يسألون به النَّاس))، ولابن بَطَّالٍ مِنْ حديث ابن مسعودٍ مرفوعًا: ((اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به)) وهو حديثٌ ضعيفٌ، وبحديث حمَّاد بن سَلَمة عن أبي جُرهمٍ، عن أبي هريرة قلتُ: يا رَسُول الله، ما تقول في المعلِّمين؟ قال: ((أجرُهم حرامٌ))، وقال الجَوْرَقَانِيُّ: حديثُ أنسٍ: ((أجرُ المعلِّم والمؤذِّن والإمام حرامٌ)) موضوعٌ، قلتُ: وأين هذا كلُّه مِنْ حديثِ ابن عبَّاسٍ السَّالف وحديثِ أبي سعيدٍ؟ وصحَّ: ((خيرُكم مَنْ تعلَّم القرآنَ وعلَّمه)) وأبو جُرهمٍ غير معروفٍ.
          ولأبي داود مِنْ حديث خارجةَ بن الصَّلتِ، عن عمه يعني: عِلاقةَ بنَ صُحارٍ أنَّه رَقَى مجنونًا موثَقًا بالحديد بفاتحة الكتاب ثلاثة أيَّامٍ، كلَّ يومٍ مرَّتين فبَرَأ، فأعطوني مئتي شاةٍ فأخبرتُ النَّبِيَّ _صلعم_ بذلك فقال: ((خذها فلَعْمْرِي مَنْ أكل برُقيةِ باطلٍ، فقد أكلتَ برقية حقٍّ))، وهذا والَّذي قبلَه صريحٌ في أنَّها شفاءٌ ولهذا مِنْ أسمائها الشَّافية.
          وفي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حديث أبي سعيدٍ مرفوعًا: ((فاتحةُ الكتاب شفاءٌ مِنْ كلِّ سمٍّ))، ولأبي داود مِنْ حديث ابن مسعودٍ: مَرِضَ الحسن أو الحسين فنزل جِبريلُ فأمره أن يقرأ الفاتحة على إناءٍ مِنَ الماء أربعين مرَّةً فيغسل به يديه ورجليه ورأسه.
          إذا تقرَّر ذلك؛ فالرَّاوي عن أبي سعيدٍ / هو أبو المتوكِّل واسمُه عليُّ بن دُؤَادٍ القرشيُّ الشَّاميُّ النَّاجيُّ البَصريُّ، والنَّفرُ ما بين العشرة إلى الثَّلاثة.
          وقوله: (فَاسْتَضَافُوهُمْ) قال ثعلبٌ: ضِفْتُ الرَّجلَ إذا نَزَلْتَ به، وأَضَفْتُهُ إذا أَنْزَلْتَهُ.
          وقوله: (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ) قال ابنُ التِّيْنِ: ضبط في بعض الكتب بفتح الياء والوجه ضمُّها، والقِرَى والضِّيافة متقاربان، والمعنى واحدٌ، لأنَّ بناءَ قرى جمعُ الشَّيء إلى الشَّيء، وبناءَ ضيفٍ الميلُ، فكأنَّ النَّازل يميل إلى المنزول عليه.
          وقوله: (فَلُدِغَ) أي مِنْ حيَّةٍ أو عقربٍ، وقد بيَّن في التِّرْمِذِيِّ أنَّها عقربٌ، وفي روايةٍ أخرى: سَليم، أي لديغ، قيل له ذلك تفاؤلًا بالسَّلامة، وقيل: لاستسلامه لما نزل به، وعند النَّسائيِّ: أو مصاب.
          وقوله: (فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) أي أتَوه بالسَّعي _بالعين_ قال ابنُ التِّيْنِ: هكذا هو في الكتب والرِّواية، وقال الخطَّابي: يعني عالجوا طلبًا للشِّفاء، يقال: سعى له الطَّبيب: عالجه بما يشفيه أو وصف له الشِّفاء.
          و(الرَّهْطُ) دون العشرة، وقيل: لا ينطلق على أكثر مِنْ ذلك، وقيل: يصل إلى الأربعين، وقد سلف.
          وقوله: (صَالَحُوهُمْ) أي وافقوهم على قطيعٍ هو ثلاثون شاةً، أخرجه النَّسائيُّ، قال ابنُ التِّيْنِ: والقَطِيعُ الطَّائفةُ مِنَ الغنم، قال: وقوله (مِنَ الغَنَمِ) تأكيدٌ. قلت: قد قال صاحب «المَطالع» وغيره: القطيع الطَّائفة مِنَ الغنم والمواشي. قال الدَّاوُدِيُّ: ويقع على ما قلَّ وكثُر.
          وقوله: (يَتْفِلُ) هو بمثنَّاةٍ تحتُ مفتوحةٍ ثم مثنَّاة فوقُ ساكنةٍ ثم فاءٍ مكسورةٍ وروي بضمِّها، وهو خفيف الرِّيق، قال ابن بَطَّالٍ: التَّفل البصاق، يقال: تَفَلَ تَفْلًا: بصق، وفي التِّرْمِذِيِّ: قرأ عليه: {الحَمْدُ لِلَّهِ} سبع مرَّاتٍ.
          وقوله: (نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ) أي أقيم بسرعةٍ، قال الخطَّابيُّ: وفي بعض اللُّغات بمعنى: حلَّ عقاله، وفي أكثرها نَشَطْتُه إذا عَقَدْتَه، وأَنْشَطْتُهُ إذا حَلَلْتَهُ وفَكَكْتَهُ، وعند الهّرَويِّ: <فَكَأَنَّمَا أَنُشِطَ مِنْ عِقَالٍ>، قال ابنُ التِّيْنِ: وكذا هو في بعض روايات البخاريِّ هنا. وقال صاحب «الأفعال»: أَنْشَطْتُ العقدة حللتُها، وقيل: الإنشاطُ الحلُّ، والنَّشيط العقد، وقيل: معناه أقيم بسرعةٍ، ومنه: رجلٌ نشيطٌ، ومنه: النَّاشطات أي تَجذِبُ الأنفسَ بسرعةٍ.
          وقوله: (وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ) هو بفتح القاف واللَّام، أي داءٌ، ويسمَّى الدَّاء قلبةً لأنَّ صاحبه يقلب مِنْ أجله ليعلم موضع الدَّاء منه، وبِخطِّ الدِّمْياطِيِّ: أنَّه داءٌ مأخوذٌ مِنَ القِلاب يأخذ البعير، فيشتكي منه قلبَه فيموت مِنْ يومه، قال النَّمِر:
وَقَدْ بَرِئتُ فَمَا بِالقَلْبِ مِنْ قَلَبَهْ
          أي برئتُ مِنْ داء الحبِّ، وقال ابن الأعرابيِّ: معناه ليست به علَّةٌ يقلب عليها فينظر إليه، ولمَّا قال له _◙_: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) وللدَّارَقُطْنيِّ: ((وما علَّمكَ أنَّها رقيةٌ؟)) قال: حقٌّ ألقي في رُوعي، وقال الدَّاوُدِيُّ: ((وما أدراك)) هو المحفوظ.
          وقال ابن عُيَيْنَة: ما قيل فيه: مَا يُدْرِيكَ؟ فلم يَدْرِه، وما قيل فيه: وما أدراك؟ فقد عَلِمَه، وإنَّما قال ذلك لما في القرآن، وأما اللُّغة فهما سواءٌ، وأخذ الدَّاوُدِيُّ ذلك أصلًا، ويدلُّ عليه قوله لعمر: ((وما يدريك لعلَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم)).
          وقوله: (قَدْ أَصَبْتُمْ) أي في رقيتكم.
          وقوله: (وَاضْرِبُوا لِي بسَهْمٍ) دِلالةٌ على جواز أخذ الأجر على الرُّقية بالفاتحة وهو موضع التَّرجمة.
          وقد اختلف العلماء فيه وفي أخذه على التَّعليم فأجازه عطاءٌ وأبو قِلابة، وهو قول الثَّلاثة: مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ، وأبي ثورٍ، ونقله القُرْطُبِيُّ عن أبي حَنِيفةَ في الرُّقية أيضًا وإسحاقَ وجماعةٍ مِنَ السَّلف والخلف، وحجُّتهم حديث ابن عبَّاسٍ، وحديث أبي سعيدٍ في الباب.
          وكره تعليم القرآن بالأجر الزُّهريُّ، وقال أبو حَنِيفةَ وأصحابه: لا يجوز أن يأخذ على تعليمه أجرًا كما سلف، قال الطَّحاويُّ: وتجوز الأجرة على الرُّقى وإن كان يدخل في بعضه القرآن؛ لأنَّه ليس على النَّاس أن يرقي بعضُهم بعضًا، وتعليم النَّاس بعضِهم بعضًا القرآن واجبٌ؛ لأنَّ في ذلك التَّبليغ عن الله _تعالى_ إلَّا أنَّ مَنْ علمه منهم أجزأ عن بقيَّتهم، وذَلِكَ كتعليم الصَّلاة لا يجوز أخذ الأجرة عليه، ولا يجوز على الأذان على وجهٍ.
          واحتجُّوا بأحاديثَ ضِعافٍ سلفت: حديثِ ابن مسعودٍ وأبي هريرة وعُبادة وغيرِها، وقد بيَّنَّا ضعفَها قبلُ وكيف تُعارِضُ هذِه حديثَ ابن عبَّاسٍ وأبي سعيدٍ، والتعارُضُ إنَّما يكون عند تساوي طُرُقِها في النَّقل والعدالة، والصَّحيحُ مقدَّم، وأمَّا قول الطَّحاويِّ: إنَّ تعليم النَّاس القرآن بعضِهم بعضًا فرضٌ، فغَلِطَ فيه؛ لأنَّ تعلُّمه ليس بفرضٍ، فكيف تعليمه؟! وإنَّما الفرضُ المعيَّنُ مِنْه على كلِّ أحدٍ ما تقوم به الصَّلاة، وغيرُ ذلك فضيلةٌ ونافلةٌ، وكذلك تعليمُ النَّاس بعضِهم بعضًا الصَّلاةَ ليس بفرضٍ يتعيَّن عليهم، وإنَّما هو على الكِفاية، ولا فرقَ بين الأجرة في الرُّقَى وعلى تعليم القرآن؛ لأنَّ ذلك كلَّه منفعةٌ، وقوله _◙_: (إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ) هو عامٌّ يدخل فيه إباحةُ التَّعليم وغيرِه، فسقط قولهم.
          وقد أجاز مالكٌ أجر المؤذِّن، وكره أجرَ الإمام، وصحَّح أصحابُنا جواز أخذ الأجرة على الأذان، حُجَّةُ الشَّافعيِّ حديثُ ابن عبَّاسٍ وحديثُ أبي سعيدٍ، وممَّا يدلُّ على جواز أخذ الأجرة على ذلك أنَّ الَّذين أخذوا الغَنَمَ تحرَّجوا مِنْ قسمتها وأكلِها حَتَّى سألوا رسول الله _صلعم_ عن ذلك، فأعلمَهم أنَّها حلالٌ لهم أخذ الأجرة عليه، وآكد تأنيسَهم وطَيَّبَ نفوسَهم بأن قال: (اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ).
          وأمَّا أجر القُسَّام فإنَّ أكثر الفقهاء أجازوه، وأمَّا ما روي عن مالكٍ مِن الكراهة فيه فإنَّما هو لأنَّ القُسَّام كانوا يُرزقون مِنْ بيت المال، فإذا لم يكن ذلك فلا بأس باستئجارهم على القسمة عنده، والقسمة مثل عقد الوثائق، كلُّ ذلك جائزٌ عنده، وعقْدُ الوثائق فرضٌ على الكفاية؛ لقوله _تعالى_: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] فلمَّا لم يتعيَّن الفرضُ جاز فيه أخذ الأجرة.
          وقال ابن المُنذِر: وأبو حَنِيفة / يَكره تعليمَ القرآن بالأجر، ويُجيز أنْ يَستأجرَ الرجلَ يكتبُ له لوحًا أو شعرًا أو غناءً معلومًا بأجرٍ معلومٍ، فيُجيز الإجارة فيما هو معصيةٌ ويبطلها فيما هو طاعةٌ لله، وقد دلَّت السُّنَّة على إجازته.
          وفيه مِنَ الفقه وجوبُ التضييف على العادة المعروفة بين النَّاس قديمًا.
          وفيه دليلٌ أنَّهم فارضوهم في مَنْعِ معروفِهم بأنْ منعوهم هؤلاء معروفَهم في الرُّقية إلَّا بعوضٍ؛ لقوله: (قَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا)، فهذا يدلُّ على أنَّ تَرْكَ الضِّيافة ليس مِنْ مكارم الأخلاق.
          وقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) أي إنَّ في القرآن ما يخصُّ الرُّقى، وإنَّ فيه ما لا يخصُّها، وإنْ كان القرآن كلُّه مرجوَّ البركة والنَّفع مِنْ أجل أنَّه كلام الله، لكنْ إذا كان في الآية تعوُّذٌ بالله أو دُعاءٌ كان أخصَّ بالرُّقية ممَّا ليس فيه ذلك، وإنَّما أرادَ بقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) أنْ يَختبر علمَه بذلك لأنَّه ربَّما خَفِي موضعُها في: {الحَمْدُ}، وهو قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] هو الموضع الَّذي فيه الرُّقية؛ لأنَّ الاستعانةَ بالله على كشف الضُّرِّ، وسؤالَ الفَرَجِ، والتبرُّؤَ إليه مِنَ الطَّاقة، والإقرارَ بالحاجة إليه وإلى عونه، هو في معنى الدُّعاء. ويحتمل أن يكون الرَّاقي إنَّما رَقَى بـ{الحَمْدُ لِلَّهِ} لما علم أنَّها ثناءٌ على الله، فاستفتحَ رقيتَه بالثَّناء رجاءَ الفَرَج كما يُرجى في الاستفتاح به في الدُّعاء الإجابةُ، ولذلك قال إبراهيم التَّيمي: إذا بدأ الرَّجل بالثَّناء قبلَ الدُّعاء فقد استوجب، وإذا بدأ بالدُّعاء قبل الثَّناء كان على الرَّجاء.
          تنبيهاتٌ: أحدها: للحنفيَّة أن يفرِّقوا بين الرُّقية وتعليم القرآن، فإنَّ أولئك القوم كانوا كفَّارًا يجوز أخذ أموالهم مطلقًا، أو تقول: إنَّ حقَّ الضَّيف لازمٌ لهم ولم يضيِّفوهم، أو أنَّ الرُّقى ليست بقربةٍ محضةٍ كسائر العلاجات، وإن كنَّا نعلم أنَّ المستأجَر على الرُّقى يَدخل في رُقاهُ القرآن؛ إذْ ليس على النَّاس أن يرقي بعضُهم بعضًا، بخلاف تعليم القرآن لوجوب تعليمه؛ لأنَّ فيه التَّبليغُ عن الله، فمَن علَّم منهم أجزأ عن بقيَّتهم، فإذا استأجر بعضُهم بعضًا على تعليم ذلك كان إجارتُه باطلةً؛ لأنَّه إنَّما استأجر على أن يؤدِّي فرضًا هو لله عليه، فإذا استؤجروا على أن يعملوا ما ليس عليهم أن يَعملوه جاز أخذ الأجرة عليه.
          ثانيها: قد أسلفنا عن ابن بَطَّالٍ أنَّ موضعَ الرُّقية: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وعبارة القُرْطُبِيِّ: موضعُها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: ويظهر لي أنَّ السُّورة كلَّها موضعُ الرُّقية؛ لقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) ولم يقل: فيها رقية، فتُستحبُّ قراءَتها على اللَّديغ والمريض وصاحبِ العاهة. وقال ابن العربيِّ: إنَّما خصَّها لأنَّه رآها سُمِّيت أمَّ الكتاب فتحقَّق شرفَها وتقدُّمَها.
          ثالثها: قال ابن دُرُسْتُوَيْهِ: كلُّ كلامٍ استُشفِيَ به مِنْ وجعٍ أو خوفٍ أو شيطانٍ أو سحرٍ فهو رقيةٌ، قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وقد يقال فيه: استرقيتُه بمعنى رقيته، قال: وعن الكِسّائيِّ: ارتقيتُ بهذا المعنى، وفي «الموعَب»: رَقَاه رَقيًا ورُقْيَةً ورُقيًا فهو راقٍ إذا عوَّذَهُ، وصاحبه رقَّاءٌ.
          وقسمها ابنُ الجوزيِّ ضربين: رقيةٌ لا تُفهَم، فربَّما كانت كفرًا فنهى _◙_ عنها لذلك، وفي الصَّحيح: ((لا بأس بالرُّقى إذا لم تكن شركًا))، ورقية جائزةٌ وهي ضربان: رقيةٌ يعتقد فيها أنَّها ترفع ما سيعرض فهذِه منهيٌّ عنها لأجل هذا المعنى، ورُقيةٌ لِمَا قد حدث فهذِه رَخَّصَ فيها.
          قال أحمد: لا بأس بالرُّقية مِنَ العين، وسأله مُهَنًّا عن الرَّجل تأتيه المرأة مسحورةً فيطلق عنها السِّحر، فقال: لا بأس. والاستشفاء بالقرآن والدُّعاء في معنى الرُّقية، فلا يُكره بحالِ، وسيكون لنا عودةٌ إليه _إن شاء الله_ في كتاب الطبِّ.
          رابعها: وَقَع في «شرح ابنِ التِّيْنِ» أنَّ حديث ابن عبَّاسٍ دليلٌ على منع أخْذِ الأجر على التَّعليم، وهو مذهب الشَّعْبِيِّ هنا إلَّا أنَّه مرسلٌ. وهذا كلامٌ غير مستقيمٍ، والحديث دالٌّ على الأخذ، وأبو حَنِيفةَ هو الذَّاهب إلى المنع لِمَا قدَّمناه. قال الدَّاوُدِيُّ: ويدلُّ عليه قوله _تعالى_: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] ولا دليل فيه؛ لأنَّه لم يمنع الإجارة وإنَّما منع أخذ الأجرة على فعل الخير يتلو القرآن ويعلِّمه.
          قال ابنُ التِّيْنِ: وقول ابن سِيْرِيْنَ في القُسَّام صحيحٌ إذا كان برضاهم، وكره في «المدوَّنة» ذلك، قال سُحْنُون: لأنَّهم كانوا يُرزقون مِنْ بيت المال فنهى عنه، وهو مِنَ الرِّشوة في الحُكْمِ، والرَُِّشوة بتثليث الرَّاء، وقيل: بالفتحِ المصدرُ، وبالكسر الاسمُ، وترشَّيتُ الرَّجل إذا ليَّنتُه، والسُّحُْتُ _بإسكان الحاء وضمِّها_ هو كلُّ طعام يلزم آكلَه العارُ.
          قال ابنُ التِّيْنِ: وفيه: جواز بيع المصحف، والإجارة على كتابته، وأَخْذُ الجُعل على قراءة القرآن ما لم يتعيَّن عليه الفرضُ كصلاة الفريضة، وذَلِكَ أنَّه إذا كان بين قومٍ لا يُحسنون مِنَ القرآن ما يُصلُّون به ما جاز له أخذ الأجرة في ذلك، وإن كان اختلف مذهبُ مالكٍ في ذلك في الفرض والنَّفْل.