التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من استأجر أجيرًا فترك أجره فعمل فيه المستأجر فزاد

          ░12▒ (بَابُ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ الأَجِيرُ أَجْرَهُ، فَعَمِلَ فِيهِ المُسْتَأْجِرُ فَزَادَ، وَمَنْ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَاسْتَفْضَلَ).
          2272- ذكر فيه حديثَ ابن عمر في قصَّة الصَّخرة، وقد سلف قريبًا في باب إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضي [خ¦2215].
          وقوله هنا: (فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا) قال الدَّاوُدِيُّ: أي عَشاءهما، قال: والغَبوق العَشاء. واعترض ابنُ التِّيْنِ فقال: الَّذي ذكرَه أهلُ اللُّغة أنَّ الغَبوقَ شرب العَشيِّ، تقول منه: غَبَقْتُ القومَ غَبْقًا. قلتُ: واسم الشَّراب الغَبيقُ، قال صاحب «الأفعال»: غَبَقتُ الرَّجل، ولا يقال: أَغْبَقْتُه.
          وقوله: (فَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَو مَالًا) الأهلُ: زوجاتُه وبنوه، والمالُ: الرَّقيق والدَّوابُّ، ذكره الدَّاوُدِيُّ، قال ابنُ التِّيْنِ: وليس للدَّوابِّ هنا معنًى يذكر به.
          ومعنى: (بَرَقَ الفَجْرُ) ظهر الضِّياء.
          وقوله: (فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ) وقال فيما مضى: ((فَافرُجْ عنَّا فُرجةً)) فإنْ يكن هذا محفوظًا فاستجيبَ بعضُ دعائِه، وأبقى الله للآخر عوض ما منع، ويحتمل أنْ يكون تأخَّر بعضُ الإجابة، ذكره ابنُ التِّيْنِ.
          و(أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ) أي أتت عليها سَنَةٌ شديدةٌ أحوجَتْها، ووقع هنا عشرون ومئةٌ، وهناك مئةٌ وتَرَكَه لها صدقةً، فحصل أجر الصَّدقة والعفَّة.
          وقوله: (وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا) وفي رواية أبي ذرٍّ: <الَّتي> وهي لغةٌ في تأنيث الذَّهب، وفيه خوفُها مَقامَ ربِّها.
          وقوله في أوَّله: (فَنَأَى بِي طَلَبُ شَيْءٍ يَوْمًا) النَّأْيُ البُعد، ومنه {يَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] ويُقلب: أَنَى.
          وقوله: (فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا) قيل هو مِنْ أراح، رُباعيٌّ، أي لم آتِهما في الرَّواح _وهو العَشيُّ_ بشيءٍ، وتَجْرُهُ في أجرةِ الأجير على الإحسان منه، وإنَّما كان عليه مقدارُ العمل خاصَّةً، فلمَّا أنماه له وقَبِلَ ذلك الأجيرُ، راعى اللهُ له حقَّ تفضُّلِه، فعجَّل له المكافأة في الدُّنيا بأنْ خلَّصَهُ الله بذلك مِنْ هَلَكَةِ الغار، والله _تعالى_ يأجره على ذلك في الدَّار الآخرة، قاله المهلَّب.
          وقد أسلفنا الخلافَ فيمن اتَّجَر في مال غيره، وأنَّ طائفةً قالوا: يطيب له الرِّبح إذا رَدَّ رأسَ المال إلى صاحبه، وسواءٌ كان غاصبًا للمال أو وديعةً عنده متعدِّيًا فيه، وهو قول عَطاءٍ وربيعةَ ومالكٍ واللَّيثِ والثَّوْرِيِّ والأوزاعيِّ وأبي يوسف، واستحبَّ مالكٌ والثَّوْرِيُّ والأوزاعيًّ تنزُّهه عنه، ويتصدَّق به، وطائفةٌ قالت: يردُّ المالَ، ويتصدَّق بالرِّبح كلِّه، ولا يَطيب له منه شيءٌ، وهو قول أبي حَنِيفةَ وزفرَ ومحمَّدِ بنِ الحسن، وطائفةٌ قالت: الرِّبحُ لِرَبِّ المال وهو ضامنٌ لِمَا تعدَّى فيه، وهو قول ابن عمر وأبي قِلابة، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ.
          وقال الشَّافعيُّ: إنِ اشترى السِّلعة / بالمال بعينِه فالرِّبح ورأسُ المال لربِّ المال، وإنِ اشتراها بمالٍ بغير عينِه قبل أنْ يستوجبَها بثمنٍ معروفِ المقدار غيرِ معروفٍ بالعين، ثم نَقَدَ المالَ المغصوب منه أو الوديعةَ، فالرِّبح له، وهو ضامنٌ لما استهلك مِنْ مال غيره.
          وادَّعى ابنُ بَطَّالٍ أنَّ أصحَّ هذِه الأقوال قولُ مَنْ رَأى أنَّ الرِّبحَ للغاصب والمتعدِّي، قال: والحُجَّة له أنَّ العين قد صارت في ذِمَّتِه، وهو وغيرُه في ماله سواءٌ إذْ لا غرض للنَّاس في أعيان الدَّراهم والدَّنانير، وإنَّما غرضُهم في تصرُّفِهم فيها، ولو غَصَبَها مِنْ رجلٍ وأراد أنْ يدفع إليه غيرَها مثلَها وهي قائمةٌ بيده لَكان له ذلك على أصلِ قول مالكٍ، وإنْ كان ذلك فربحُها له، وحديث الباب حُجَّةٌ له، ألا ترى أنَّ الأجير لَمَّا رأى ذلك قال له: ((أتستهزئ بي؟!))؛ فدلَّ أنَّ السُّنَّة كانت عندَهم أنَّ الرِّبح للمتعدِّي، وأنَّه لا حقَّ فيه لربِّ المال، وأخبرَ بذلك الشَّارعُ، فأقرَّه ولم ينسخه.
          قلتُ: تعجُّبُه مِنْ كثرة ما رأى مع قلَّةِ أجرته، وقد رُوي عن عمرَ ما يدلُّ على أنَّ الرِّبح بالضَّمان، روى مالكٌ في «الموطَّأ» أنَّ أبا موسى أسلفَ عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطَّاب مِنْ بيت المال، فاشتريا به متاعًا وحملاه إلى المدينة فربحا فيه، فقال عمر: أدِّيَا المال وربحَه، فقال عبيد الله: ما ينبغي لك هذا، لو هلك أو نقص ضَمِنَّاه، فقال رجلٌ: لو جعلتَه قراضًا يا أمير المؤمنين؛ قال نعم، فأخذَ منهما نصفَ الرِّبح، فلم يُنكر عمرُ قول ابنِه: لو هلك المال أو نقص ضمنَّاهُ، فلذلك طاب له ربحُه، ولا أنكره أحدٌ مِنَ الصَّحابة بحضرته.