التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الإجارة إلى نصف النهار

          ░8▒ (بَابُ: الإِجَارَةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ)
          2268- ذكر فيه حديثَ ابن عُمر: (مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ...) الحديث بطوله، وقد سلف في الصَّلاة [خ¦557]، وترجم عليه أيضًا:
          ░9▒ (بَابُ: الإِجَارَةِ إِلَى صَلاَةِ العَصْرِ)
          ثمَّ قال:
          ░11▒ (باب: الإِجَارَةِ مِنَ العَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ)
          2271- وساق فيه حديثَ أبي موسى مثله، وراجِعْ ذلك مِنْ ثَمَّ.
          ولنذكر هنا بعض فوائدَ لطول العهد به فنقول:
          فيه ذكرُ الإجارة الصَّحيحة بالأجر المعلوم إلى الوقت المعلوم، ولولا جوازُه ما ضَرَبَ به الشَّارعُ المثل، وقال المهلَّب: إنما هو مثلٌ ضربه الشَّارع لِمَنْ خُلِقَ لعبادته، فشرع له دين موسى ليعملوا الدَّهر كلَّه بما يأمرهم به وينهاهم عنه، فعملوا إلى بعث عيسى، فأمرهم باتَّباعه، فأبوا وتبرَّؤوا ممَّا جاء به عيسى، وعمل آخرون به على أنْ يعملوا باقيَ الدَّهر بما يُؤمرون به ويُنهَون عنه، فعملوا حَتَّى بعث الله نبيَّنا، فدعاهم إلى العمل بما جاء به فعصَوا وأبَوا وقطعوا العمل، فعمل المسلمون بما جاء به، ويَعملون به إلى يوم القيامة، فلهم أجرُ عملِ الدَّهر كلِّه؛ لأنَّهم أتمُّوه بالعبادة كإتمام النَّهار الَّذي كان استؤجر عليه كلِّه أوَّلُ طبقةٍ.
          وقوله: (مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةٍ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ) قدَّرَ لهم مُدَّةَ إعمال اليهود، ولهم أجرهم عليه إلى أنْ نسخ الله شريعَتهم بعيسى، ثُمَّ قدَّر عمل مدَّة هذا الشَّرع، وله أجرُ قِيراطٍ، فعملت إلى أنْ نسخ نبيُّنا، فتفضَّل على المسلمين فقال: مَنْ يعمل بقية النهار إلى اللَّيل، وله قِيراطانِ؟ فقال المسلمون: نحن نعمل إلى انقطاع الدَّهر بشريعة محمَّدٍ، فهذا الحديث وجَّه العمل بمُدَدِ الشَّرائع، والحديث الثَّاني وجَّه العمل الدَّهر كلَّه، وبقيَ أنَّ مَنْ عمِلَ اليهودِ إلى أنْ نُسخ دين موسى، ثم انتقل وآمن بعيسى، وعمل بشريعته أنَّ له أجرَه مرَّتين، وكذلك مَنْ عمل مِنَ النَّصارى بدين عيسى مدَّةَ شرعه، ثم آمن بمحمَّدٍ وعمل بشريعته كان له أجرُه مرَّتين كما أنَّ للمسلمين أجرهم مرَّتين، يعني: كأجر اليهود والنَّصارى قبلهم؛ لأنَّهم أُعطوا قيراطين على أجر النَّهار، كما أُعطي اليهودُ والنَّصارى قيراطين على أكثره، وإنَّما ذلك مِنْ أجل إيمان المسلمين بموسى وعيسى وإنْ لم يعملوا بشريعتهما؛ لأنَّ التَّصديق عملٌ.
          فإنْ قلتَ: فما معنى قول اليهود والنَّصارى: (نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً)، وبين نصف النَّهار إلى العصر ثلاث ساعات، كما بين العصر إلى الغروب، وإنَّما كان يكون معنى الحديث ظاهرًا لو قال ذلك اليهود خاصَّة؛ لأنَّهم عملوا نصف النَّهار على قِيراطٍ، وذَلِكَ ستُّ ساعاتٍ، وعملت النَّصارى ثلاثًا على قِيراطٍ.
          قلتُ: عنه أجوبةٌ: أحدُها: أنْ يكون قولُه: (نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً) مِنْ قول اليهود خاصَّة، ويكون مِنْ قول النَّصارى: (نَحْنُ أَقَلُّ عَطَاءً)، وإنْ كانوا متقاربين مع المسلمين في العمل، فيكون الحديث على العموم في اليهود، وعلى الخصوص في النَّصارى، وقد يأتي في الكلام إخبارٌ عن جُملةٍ / والمرادُ بعضُها، كقوله _تعالى_: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] وإنَّما يخرج مِنَ الملح خاصَّة، ومثلُه: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف:61] والنَّاسي كان يُوشَعُ وحده، يدلُّ على ذلك قوله لموسى: {إِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ}.
          ثانيها: أنَّه عامٌّ فيهما على أنَّ كلَّ طائفةٍ منهما أكثرُ عملًا وأقلُّ عطاءً، فعملتِ النَّصارى إلى صلاة العصر، وليس فيه أنَّه إلى أوَّل وقته، فنحملُهُ على أنَّها عملت إلى آخر وقته، قاله ابن القَصَّار.
          ثالثها: أنَّ نصفَ النَّهار وقتُ الزَّوال، وهو في آخر السَّادسة، والعصرُ في أوَّل العاشرة، بعد مضيِّ شيءٍ يسيرٍ منها، فزادت المدَّةُ الَّتِي بين الظُّهر إلى العصر على المدَّة الَّتِي بين العصر إلى اللَّيل بمقدار ما بين آخر السَّاعة التَّاسعة وأوَّلِ العاشرة، وإنْ كان ذلك القدْرُ لا يتبيَّنُه كثيرٌ مِنَ النَّاس، وهي زيادةٌ معلومةٌ بالعمل.
          واستدلَّ به أبو حَنِيفةَ على أنَّ آخرَ وقتِ الظُّهر يمتدُّ إلى مصير الظلِّ مثلَيه؛ لأنَّه جَعَل زَمَنَنا قدْر ما بين العصر إلى الغروب، وهو أقلُّ مِنَ الرُّبع؛ لأنَّه لم يبق مِنَ الدُّنيا ربعُ الزَّمان، وقد قال _◙_: ((بعثتُ أنا والسَّاعة كهاتين)) وأشار بالسَّبابة والوسطى. والتَّفاوتُ بينهما أقلُّ مِنَ الرُّبع، وأيضًا فقد عملت النَّصارى الرُّبع، وكانوا أكثرَ عملًا، فاقتضى أنْ يكونَ ذلك أكثر زمنًا؛ لأنَّ كثرة العمل تقتضي طول الزَّمن.
          وأجاب أصحابُنا بأنَّ الحديثَ إنَّما قصد به بيان ذِكْرِ الأعمالِ لا الأوقات، وحديثُ الوقتين قصد به بيان الأوقات، وما قصد به بيان الحكم مُقَدَّمٌ، وأيضًا فالمراد: أنَّ هذِه الأمَّة تلي قيامَ السَّاعة، ولا نبيَّ بعد نبيِّها، فهي تليها كما تلي صلاةُ العصرِ الغروبَ، وكما تلي السَّبابةُ الوسطى، ولم يُرِدْ بيانَ ما بقي مِنَ الدُّنيا لأنَّ الله _تعالى_ قد استأثر بعلم ذلك، وما بين السَّبابة والوسطى نصفُ سُبْعٍ.
          وقوله في حديث أبي موسى: (قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ) هو في حقِّ مَنْ بَدَّلَ، وحديثُ ابن عمر فيمَنْ لم يُبَدِّل.
          وقوله: (فَغَضِبَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى) يعني كفَّارهم؛ لأنَّ مؤمنَهم لا يَغضب مِنْ حكم الله، قال الدَّاوُدِيُّ: وحديث أبي موسى أبْيَنُ وأوضح في المعنى.
          وقوله: (إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى) كذا هو بالعطف على المضمَر المخفوض بغير إعادةٍ.
          وقوله: (وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا) قال ابنُ التِّيْنِ: صوابه كليهما؛ لأنَّه تأكيدٌ لمجرورٍ.