التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام

          ░3▒ (بَابُ: اسْتِئْجَارِ المُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِسْلاَمِ وَعَامَلَ النَّبِيُّ _صلعم_ يَهُودَ خَيْبَرَ). /
          2263- ثم ساق حديثَ عَائِشَةَ: (اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ _صلعم_ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا، والْخِرِّيْتُ _المَاهِرُ بِالهِدَايَةِ_ وَهُو عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ...) الحديث.
          ثمَّ ترجم عليه:
          ░4▒ (بَابُ: إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، أَو بَعْدَ شَهْرٍ، أَو بَعْدَ سَنَةٍ جَازَ، وَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذي اشْتَرَطَاهُ إِذَا جَاءَ الأَجَلُ)
          2264- وساق بعضَه، وهو حديث الهجرة السَّالف.
          واستئجارُ المشركين جائزٌ عند الضَّرورة وغيرِها عند عامَّة الفقهاء؛ لأنَّ ذلك ذِلَّةٌ وصغارٌ لهم، وتقييدُ البخاريِّ في ترجمته ذلك بما إذا لم يوجد أهل الإسلام؛ لأنَّ العرض كان كذلك، فإنَّما عامل أهلَ خيبرَ على العمل في أرضها إذْ لم يوجد مِنَ المسلمين مَنْ ينوب منابَهم في عمل الأرض، حَتَّى قَوِيَ الإسلامُ واستغنى عنهم فأجلاهم عمرُ بنُ الخطَّابِ، ويجوز أنْ يكون أرادَ على وجه الاستحباب، نعم يحرمُ على المسلم إجارتُه نفسَه للكافر لأنَّ فيه ذلَّةً وصغارًا.
          وفيه ائتمانُ أهل الشِّرك على السِّرِّ والمال إذا عَهِدَ منهم وفاءً ومروءةً كما استأمن رَسُول الله _صلعم_ هذا الدَّليلَ المشرك؛ لِمَا كانوا عليه مِنْ بقيَّةِ دِين إبراهيمَ، وإنْ كان مِنَ الأعداء، لكنَّه عَلِمَ منه مروءةً ائتمنه مِنْ أجلها على سِرِّهِ في الخروج مِنْ مكَّة، وعلى النَّاقتين اللَّتين دفعهما إليه ليوافيَهما بهما بعد ثلاثٍ في غار ثورٍ.
          وقوله: (فَأَمِنَاهُ) أي ائتمناه، ثلاثيٌّ، وفيه استئجار المسلم الكافر على هِداية الطَّريق واستئجار الرَّجلين الواحد على عملٍ واحدٍ لهما.
          وعامر بن فُهَيْرَة المذكور في الحديث هو مولى الصِّدِّيق، ويقال: إنَّه مِنَ العرب، استُرِقَّ وهو غلامٌ فاشتراه الصِّدِّيق فأعتقه، ويقال: إنَّه مِنَ الأَزْد، وكان ممَّن يعذَّب بمكَّة في الله، شهد بدرًا وأُحدًا، وقتل يوم بئر مَعُونَة سنَةَ أربعٍ مِنَ الهجرة، وهو الَّذي حكت عائشة عنه أنَّه كان إذا أخذته الحُمَّى يقول:
قد رأيتُ الموتَ قبلَ ذَوْقِه                     إنَّ الجبانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ
          واسمُ الدَّليل عبدُ الله فيما ذكره ابنُ إسحاق، وقال مالكٌ في «العتبيَّة» اسمه رُقَيط.
          وفيه إباحةُ استئجار الرَّجل على أنْ يدخل في العمل بعد أيَّامٍ معلومةٍ فيصحُّ عقدها قبل العمل، وقياسُه أنْ يستأجر منزلًا معلومًا مدَّة معلومةً قبل مجيء السَّنَة بأيَّام، وأجاز مالكٌ وأصحابُه استئجارَ الأجير على أنْ يعمل بعد يومٍ أو يومين أو ما قرب هذا إذا أنقده الأجرة.
          واختلفوا فيما إذا استأجره ليعملَ إلى بعد شهرٍ أو سنة ولم ينقده، فأجازَه مالكٌ وابن القاسم، وقال أشهبُ: لا يجوز، ووجهُه أنَّه لا يدري أيعيش المستأجر أو الدَّابَّة، وهو مِنْ باب منع التَّصرُّف في الرَّاحلة والأجير، واتَّفقا على أنَّه لا يجوز ذلك في البيع، وهذا عندهم في الأجير المعيَّن والراحلة المعيَّنة، وأمَّا إذا كان كثيرًا مضمومًا فيجوز فيه ضرب الأجل البعيد وتقديم رأس المال، ولا يجوز أنْ يتأخَّر رأس المال إلَّا اليومين والثَّلاثة؛ لأنَّه إذا تأخر كان مِنْ باب بيع الدَّين بالدَّين، وتفسير الكِراء المضمون أنْ يستأجره على حمولةٍ بعينها على غير دابَّةٍ معيَّنةٍ، والإجارة المضمونة أنْ يستأجره على بناء بيتٍ لا يشترط عليه عمل يده ويصف له طوله وعرضه وجمع آلته على أنَّ المؤنة فيه كلُّها على العامل مضمونًا عليه حَتَّى يتمَّه، فإنْ مات قبل تمامه كان ذلك في ماله، ولا يضرُّه بعد الأجل.
          فإنْ قلتَ: مِنْ أين أنَّ العمل يقع بعد مدَّةٍ؟ قلتُ: اعترض الإسماعيليُّ فقال: ترجم عليه البخاريُّ ظنَّ ظنًّا فعمل عليه، مِنْ أين في الخبر أنَّهما استأجراه على ألَّا يعمل إلَّا بعد ثلاثٍ، بل في الخبر أنَّهما استأجراه وابتدأ في العمل مِنْ وقته بتسيلمهما إليه راحلتيهما يرعاهما ويحفظهما، فكان خروجُهما وخروجُه بعد ثلاثٍ على الرَّاحلتين اللَّتين قائمٌ بأمرهما إلى ذلك الوقت. وأجاب ابن المُنَيِّرِ فقال: قاس البخاريُّ الأجلَ البعيد على القريب بطريقةٍ لا قائل بالفصل، فجعل الحديث دليلًا على الجواز مطلقًا، وعند مالكٍ تفصيلٌ بين الأجل الَّذي لا تتغيَّر السِّلعة في مثله، وبين الأجل الَّذي تتغير السِّلعة في مثله فيمتنع.
          وكذا اعترضَ ابنُ التِّيْنِ فقال: لم يأت في الحديث ما ترجم له، وهو ممنوعٌ أنْ يستأجر رجلًا ليبتدئ في عملٍ بعد شهرٍ أو سنَةٍ للغَرر في ذلك، ولا يدري هل يعيش الرَّجل، واغتفر الأمد اليسير لأنَّ العطب فيه نادرٌ والغالب السَّلامة، وأخذ الدَّاوُدِيُّ إجازةَ ذلك مِنْ معاملة أهل خيبر، وهو فاسدٌ، لأنَّ العمل مِنْ وقته لا مِنْ وقتٍ بعده.
          فائدةٌ: قد فُسِّر (الخِرِّيتُ) في الحديث بـ(المَاهِرُ بِالهِدَايَةِ) أي الحاذقِ فيها كما قاله صاحب «العين»، قيل: سمِّي بذلك لأنَّه يهتدي بمثل خُرْتِ الإبرة، أي ثقبها، وقيل: لشقِّه المفازة، وحكى الكِسَائيُّ: خَرَتْنا الأرض إذا عرفناها ولم تخفَ علينا طُرقُها.
          ثانيه: قوله: (قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ العَاصِ بْنِ وَائِلٍ) أي دخل في حلفِهم وغمس نفسَه في ذلك، وآل العاص هم بنو سَهْمٍ رَهْطٌ مِنْ قُريشٍ.