التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: السفر قطعة من العذاب

          ░19▒ بَابٌ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ.
          1804- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسَلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قال: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَومَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ).
          هذا الحديث أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أيضًا وتفرَّد به مالكٌ عن سُمَيٍّ ولا يصحُّ لغيره، كما قاله أبو عمر قال: وانْفَرَدَ به سُمَيٌّ أيضًا فلا يحفظ عن غيره، وهكذا هو في «الموطَّأ» عند جماعة الرُّواة بهذا الإسناد، ورواه ابن مهديٍّ عن بشرٍ عَنْ مَالِكٍ مرسلًا، وكَانَ وكيعٌ يحدِّث به عَنْ مَالِكٍ حِينًا مرسلًا وحِينًا مسندًا كما في «الموطَّأ» والمسند صحيحٌ ثابتٌ احتاج النَّاس فيه إلى مالكٍ، وليس له غير هذا الإسناد مِنْ وجهٍ يصحُّ.
          وروى عبيد الله بن الْمُنتاب، عن سليمان بن إسحاق الطَّلْحِيِّ، عن هارون الفَرَويِّ، عن عبد الملك بن الماجِشُونِ قال: قال مَالِكٌ: ما بالُ أهل العراق يسألوني عن حديث (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ) قيل له: لم يَروِهِ غيرك، فقال: لو استقبلتُ مِنْ أمري ما استدبرت ما حدَّثتُ به، ورواه عاصم بن روَّاد بن الجرَّاح عن أبيه عَنْ مَالِكٍ عن رَبِيعَة عن القَاسِم عن عائشة، وعَنْ مَالِكٍ عن سُمَيٍّ كما سَلَفَ مرفوعًا به، قال: وحديث روَّادٍ غير محفوظٍ، لا أعلم رواه عَنْ مَالِكٍ غيره، وهو خطأٌ ليس روَّادٌ ممَّنْ يحتجُّ به، ولا يعوَّل عليه، وقد رواه خالد بن مَخْلَدٍ، عن محمَّد بن جَعْفَرٍ الوَرْكَانِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عن سُهيلٍ عن أبيه عن أبي هُرَيرَةَ، ولا يصحُّ لِمَالِكٍ عن سُهيلٍ عندي، إلَّا أنَّه لا يبعد أن يكون عن سُهيلٍ أيضًا وليس بمعروفٍ لِمَالِكٍ عَنْهُ.
          وقد رُوِيَ عن عَتِيْقِ بن يعقوب عَنْ مَالِكٍ، عن أبي النَّضْر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيرَةَ مرفوعًا، ولا يصحُّ أيضًا عندي، وَإِنَّمَا هو لمالكٍ، عن سُمَيٍّ لا عن سهيلٍ، ولا عن رَبِيعَة ولا عن أبي النَّضْر، وقد رواه بعض الضُّعفاء عَنْ مَالِكٍ قال: ((وليتَّخذ لأهله هديَّةً، وإنْ لم يلق إلَّا حجرًا فليُلقه في مِخْلاتِه)).
          قال: والحجارة يومئذٍ تُضرب بها القِداح، قال أبو عمر: وهذه زيادةٌ منكرةٌ لا تصحُّ.
          ورواه ابن سَمْعان، عن زيد بن أَسلَم عن جُمْهانَ عن أبي هُرَيرَةَ مرفوعًا: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ)، وابن سَمْعان كَانَ مَالِكٌ يرميه بالكذب، قال: وقد رُوِّيناه عن الدَّراوَرْديِّ، عن سهيلٍ، عن أبيه عن أبي هُرَيرَةَ بإسنادٍ صالحٍ، لكنَّه لا تَقوَى الحجَّة به، وفيه: ((وَإِذَا عَرَّسْتُمْ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهَا مَأْوَى الْهَوَامِّ والدَّوَابِّ)).
          قال: وفيه دِلالةٌ على أنَّ طول التَّغرُّب عن الأهل لغير حاجةٍ أكيدةٍ مِنْ دينٍ أو دنيا لا يصلُح ولا يجوز، وأنَّ مَنِ انقضت حاجتُه لزمه الاستعجال إلى أهله الَّذِين يقوتهم.
          وقد روى وكيعٌ عَنْ مَالِكٍ، عن سُمَيٍّ، عن أبي صالحٍ عن أبي هُرَيرَةَ مرفوعًا: ((لَو يَعْلَمُ النَّاسُ مَا لِلْمُسَافِرِ لأصبحوا على ظَهْرِ سَفَرٍ، إِنَّ اللهَ لَيَنْظُرُ إِلَى الْغَرِيبِ فِي كُلِّ يَومٍ مَرَّتَينِ))، وقال: هذا حديثٌ غريبٌ لا أصلَ له مِنْ حَدِيثِ مالكٍ ولا غيره، وهو حديثٌ حسنٌ.
          وممَّا يدخل في هذا الباب قوله: ((سَافِرُوا تَغْنَمُوا)). قلتُ: أخرجه ابن عَبَّاسٍ وابن عُمَرَ مرفوعًا، وقد ظنَّه قوم معارضًا لهذا الحديث، وليس كذلك لاحتمال أن يكون (العَذَاب) وهو التَّعب والنَّصب ها هنا مسندًا للصِّحَّة لأنَّ في الحركة والرِّياضة منفعةً لا سيَّما لأهل الدَّعة والرَّفاهيةِ، كالدَّواء المرِّ المعقب للصِّحَّة، وإنْ كَانَ في تناوله كراهيةٌ.
          والنَّهْمة _بفتح النُّون وسكون الهاء_ الحاجة، قال صاحب «الموعَب»: والنَّهْمة أيضًا بلوغ الهمَّة بالشَّيء وهو منهومٌ بكذا أي مولعٌ.
          وفيه حجَّةٌ لِمَنْ رأى تغريب الزَّاني بعد جَلده، قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، وأراد بمنعه طعامه وشرابه ونومه في وقتٍ يريده لاشتغاله بمسيره.
          وفيه الحثُّ على ترك الأسفار غيرَ سفر الطَّاعة لما فيه مِنْ فوت الجماعات، والتَّقصير في العبادة.
          وفيه كما سَلَفَ حضٌّ أكيدٌ وندبٌ على سرعة رجوعِ المسافر إلى أهله عندَ انقضاء حاجته، وقد بيَّن ◙ المعنى في ذَلِكَ بِقوله: ((يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَومَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
          وامتناع هذه الثَّلاثة الَّتِي هي أركَانُ الحياة مَعَ ما ينضاف إليها مِنْ مشقَّة السَّفر وتعبه هو العذاب الَّذِي أشار إليه ◙: ((فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ)) لكي يتعوَّض مِنْ أَلَمِ ما ناله مِنْ ذَلِكَ للرَّاحة والدَّعة في أهله، والعرب تشبِّه الرَّجل في أهلِه بالأمير.
          وَقِيلَ في قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة:20]، قال: مَنْ كَانَ له دارٌ وخادمٌ فهو داخلٌ في معنى الآية، وقد أخبر الله تعالى بلطف محلِّ الأزواج مِنْ أزواجهنَّ بِقوله: {وَجَعَلَ بَينَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]. فقيل: المودَّةُ الجماعُ، والرَّحمةُ الولدُ.
          فائدةٌ: مِنْ طُرَفِ ما وقع لي / أنَّ إمام الحرمين سأله بعضُهم لَمَّا جُعِل مكَانَ والده عن معنى قوله: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ) فأجاب في الحال: لأنَّ فيه فراقَ الأحباب، وهو مِنْ عجيب الأجوبة.