التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب العمرة ليلة الحصبة وغيرها

          ░5▒ بَابُ: العُمْرَةِ لَيلَةَ الحَصْبَةِ وَغَيرِهَا.
          1783- ذَكَرَ فيه حديثَ عائشة قالت: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلعم مُوَافِينَ لِهِلالِ ذِي الحِجَّةِ، فَقال لَنَا: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ...) الحديث.
          فَلَمَّا كَانَت لَيلَةُ الحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلَتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي.
          وقد سَلَفَ الحديث غيرَ مرَّةٍ، وهذا الباب قبل باب: عمرة التَّنعيم ثابتٌ في الأصول، لكنَّا تبعنا فيه ابن بَطَّالٍ.
          وفقه الباب: أنَّ الحاجَّ يجوز له أنْ يعتمر إذا تمَّ حجُّه بعد انقضاء أيَّام التَّشريق، و(لَيلَةُ الحَصْبَةِ) هي الَّتِي تلي ليلة النَّفر الآخر.
          وقولها: (خَرَجْنَا مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الحِجَّةِ) كذا هنا وفيما بعدُ، والَّذِي في أكثر الرِّوايات عَنْهَا وعن غيرها أنَّهم خرجوا ((لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الحِجَّة)) فإمَّا أنْ تكون قالته على المقاربة، أو في هذه الرِّواية بعض الوهم.
          وقولها: (وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ) قد سَلَفَ الاختلاف فيما أهلَّت به، واختلف السَّلف في العمرة بعد أيَّام الحجِّ، فذكر عبد الرَّزَّاق بإسناده عن مُجَاهِدٍ قال: سُئل عمر وعليٌّ وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة، فقال عمر: هي خيرٌ مِنْ لا شيء، وقال عليٌّ: هي خير مِنْ مثقال ذرَّةٍ، وقالت عائشة: العمرة على قدر النَّفقة، وعَنْهَا أيضًا لأنْ أصوم ثلاثة أيَّامٍ، أو أتصدَّق على عشَرة مساكينَ أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أعتمر بِالعُمْرَةِ الَّتِي اعتمرتُ مِنَ التَّنعيم، وقال طاوسٌ فيمَنِ اعتمر بعد الحجِّ: لا أدري أيعذَّبون عليها أم يؤجرون؟ وقال عطاء بن السَّائب: اعتمرنا بعد الحجِّ فعاب ذَلِكَ علينا سعيدُ بن جُبَيرٍ، وأجاز ذَلِكَ آخرون.
          روى ابن عُيَيْنةَ عن الوليد بن هشامٍ قال: سألت أمَّ الدَّرداء عن العمرة بعد الحجِّ، فأمرتني بها، وَسُئِلَ عطاءٌ عن عمرة التَّنعيم قال: هي تامَّةٌ وتجزئُه، وقال القَاسِم بن محمَّدٍ: عمرة المحرَّم تامَّةٌ، وقد رُوِيَ مثل هذا المعنى قال: تمَّت العمرة السَّنة كلَّها إلَّا يوم عَرَفَة، ويوم النَّحْرِ ويومين مِنْ أيَّام التَّشريق، وقال أبو حنيفةَ: العمرة جائزةٌ السَّنة كلَّها إلَّا يوم عَرَفَة، ويوم النَّحْرِ، وأيَّام التَّشريق، للحاجِّ وغيره.
          ومِنْ حَدِيثِ عائشة في الباب استَحبَّ مالكٌ للحاجِّ ألَّا يعتمر حتَّى تغيب الشَّمْس مِنْ آخر أيَّام التَّشريق لأنَّه ◙ قد كَانَ وعد عائشة بِالعُمْرَةِ وقال لها: ((كُونِي فِي حَجِّكِ عَسَى اللهُ أَنْ يَرْزُقَكِهَا))، ولو استحبَّ لها العمرة في أيَّام التَّشريق لأمرها بِالعُمْرَةِ فيها، وبه قال الشَّافعيُّ، وَإِنَّمَا كُرِهَت العمرة فيها للحاجَّ خاصَّةً لئلَّا يُدْخِلَ عملًا على عملٍ لأنَّه لم يكمل عملَ الحجِّ بعد، ومَنْ أَحْرَمَ بِالحَجِّ فلا يُحرِم بِالعُمْرَةِ لأنَّه لا تُضاف العمرة إلى الحجِّ عند مالكٍ وطائفةٍ مِنَ العلماء، وَأَمَّا مَنْ ليس بحاجٍّ فلا يُمنع مِنْ ذَلِكَ.
          فإن قلتَ: فقد روى أبو معاويةَ عن هشام بن عُرْوَة عن أبيه، عن عائشة في هذا الباب (وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ) وروى مثله يحيى القَطَّان عن هشامٍ في الباب بعد هذا، وهذا خلاف ما تقدَّم عن عائشة أنَّها أهلَّت بالحجِّ، قلتُ: قد قدَّمنا أنَّ أحاديث عائشة في الحجِّ أشكلتْ على الأئمَّة قديمًا، فمِنْهُم مَنْ جعل الاضطراب فيها جاء مِنْ قِبَلِها، ومِنْهُم مَنْ جعله مِنْ قِبَلِ الرُّواة عَنْهَا.
          وقد روى عُرْوَة والقَاسِم والأسوَدُ وعَمْرةُ، عن عائشة أنَّها كَانَت مفرِدةً للحجِّ، على ما سَلَفَ في أوائل الحجِّ في باب التَّمتُّع والقِران والإفراد، والحُكمُ لأربعةٍ مِنْ ثقاتِ أصحابِ عائشة، فالحمل على التَّضادِّ أولى مِنَ الحُكم لرجلين مِنْ متأخِّري رواة حديثها، ويكون قولها: (مَكَانَ عُمْرَتِي) أي الَّتِي أَحْرَمَتْ بها مِنْ سَرِفَ، ثمَّ مُنِعَتْهَا مِنْ أجل الحيض.