التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كم اعتمر النبي

          ░3▒ بَابٌ: كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلعم؟
          1775- 1776- ذَكَرَ فيه حديثَ مُجَاهِدٍ قال: (دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيرِ المَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إلى حُجْرَةِ عائشة، وَإِذَا أُنَاسٌ يُصَلُّونَ في المَسْجِدِ صَلَاةَ الضُّحَى، قال: فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ، فَقال: بِدْعَةٌ، ثمَّ قال لَهُ: كَمِ اعْتَمَرَ النَّبيُّ صلعم؟ قال: أَرْبَعٌ، إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عليه، قال: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عائشة أُمِّ المُؤْمِنِينَ فِي الحُجْرَةِ، فَقال عُرْوَة: يَا أُمَّاهُ، يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، أَلَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقالتْ: مَاْ يَقُولُ؟ قال: يَقُولُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، قالتْ: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ).
          1777- وحديثَ عُرْوَة قال: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ، قالتْ: مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي رَجَبٍ).
          1778- وحديثَ قَتَادَة قال: (سَأَلْتُ أَنَسًا: كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلعم؟ قال: أَرْبَعًا: عُمْرَةُ الحُدَيبِيَة في ذِي القَعْدَةِ حَيثُ صَدَّهُ المُشْرِكُونَ، وَعُمْرَةٌ فِي العَامِ المُقْبِلِ فِي ذِي القَعْدَةِ حَيثُ صَالَحَهُمْ، وَعُمْرَةُ الجِعِرَّانة إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ _أُرَاهُ_ حُنَينٍ قُلْتُ: كَمْ حَجَّ؟ قَالَ: وَاحِدَةً).
          1779- 1780- وعَنْ قَتَادَة: (سَأَلْتُ أَنَسًا، قال: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم حَيثُ رَدُّوهُ، وَمِنَ القَابِلِ عُمْرَةَ الحُدَيبِيَة، وَعُمْرَةً فِي ذِي القَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ).
          وعن هَمَّامٍ قال: (اعتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فِي ذِي القَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَتَهُ مِنَ الحُدَيبِيَة، وَمِنَ العَامِ المُقْبِلِ، وَمِنَ الجِعِرَّانَةِ حَيثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَينٍ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ).
          1781- وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قال: (سَأَلْتُ مَسْرُوقًا وَعَطَاءً وَمُجَاهِدًا، قالوا: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي ذِي القَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَين).
          الشَّرْحُ: هذه الأحاديث الثَّلاثة أخرجها مسلمٌ، وقال في الأولى: ((فَكَرِهْنَا أَنْ نُكَذِّبَهُ))، وفي روايةٍ له: ((وابن عُمَرَ يَسْمَعُ، فَمَا قال: لَا، وَلَا نعَم، سَكَتَ))، ولمسلمٍ في الأخير: ((عُمْرَةً مِنَ الحُدَيبِيَة، أَو زَمَنَ الحُدَيبِيَة فِي ذِي القَعْدَةِ)).
          واعترض الإِسْمَاعِيلِيُّ فقال: هذا الحديث لا يدخل في باب: كم اعتمر؟ وَإِنَّمَا يدخل في باب: مَتَى اعتمر؟
          قلتُ: بلى داخلٌ فيه، والزَّمان وقع استطرادًا، وفي قول مُجَاهِدٍ: (دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَة) إلى آخره، ظاهرٌ في سماع مُجَاهِدٍ مِنْ عائشة خلافًا لما قاله يحيى القَطَّان وآخرون.
          وفي أفراد مسلمٍ مِنْ حَدِيثِ البَراء بن عازِبٍ: ((اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلعم فِي ذِي القَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَين))، وفي أبي داود بإسنادٍ على شرط الشَّيخين مِنْ حَدِيثِ عائشة: ((أنَّه ◙ اعْتَمَرَ فِي شَوَّال))، وأخرجه مالكٌ في «موطَّئه» أيضًا.
          وفي الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِها: ((أنَّه ◙ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَان)) وهو غريبٌ.
          قال ابنُ بَطَّالٍ: والصَّحيح أنَّه اعتمر ثلاثًا، والرَّابعة إِنَّمَا يجوز نسبتها إليه لأنَّه أمر النَّاس بها وَعُمِلَت بحضرتِه، لا أنَّه اعتمرَها بنفسِه، ويدلُّ على صحَّة ذَلِكَ أنَّ عائشة ردَّت على ابن عُمَرَ قوله، وقالت: (مَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ) وَأَمَّا أنسٌ فإنَّه لم يضبط المسألة ضبطًا جيدًا، وقد أنكر ذَلِكَ عليه ابن عُمَرَ حِينَ ذكر له أنَّ أنسًا حدَّث أنَّه ◙ أهلَّ بِعُمْرَةٍ وحجَّة، فقال ابن عُمَرَ: ((أَهَلَّ النَّبِيُّ صلعم وَأَهْلَلْنَا بِهِ))، ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ في المغازي، ففي ردِّ ابن عُمَرَ على أنسٍ: أنَّه ◙ اعتمر / مَعَ حَجَّته، ردٌّ مِنِ ابن عُمَرَ على نفسه أيضًا، وقد جاء عن أنسٍ نفسه خلافُ فتواه، وهو حديث مروان الأصفر عَنْهُ، أنَّه ◙ قال لعليٍّ: ((لَولا أَنَّ مَعِيَ الهَدْيَ لأحللت)).
          ذكره في باب مَنْ أهلَّ في زمنه كإهلاله، فامتناعه مِنَ الإهلال مِنْ أجل الهدي يدلُّ أنَّه كَانَ مفرِدًا للحجِّ لأنَّه اعتذر عن الفسخ فيه بالهدي، ولو كَانَ قارنًا ما جاز أنْ يعتذر لاستحالة الفسخ على القارن، فكيف يجوز أنْ يُنسب إلى رسول الله صلعم أنَّه اعتمر مَعَ حَجَّته؟ إلَّا على معنى أنَّه أمر بذلك مَنْ لم يكن معه هديٌ، هذا ما لا ريب فيه ولا شكَّ.
          وقال أبو عبد الملك: إنَّه وهمٌ مِنِ ابن عُمَرَ لاجتماع المسلمينَ على أنَّه اعتمر ثلاثًا، وقاله معه أنسٌ، فأمَّا أنسٌ فجعله قارنًا أو متمتِّعًا.
          و(اسْتِنَانِهَا): قيل: سواكها، والأَولى استعمالُها الماء، قال ابنُ فارسٍ: سننتُ الماء على وجهي أرسلتُه إرسالًا، إلَّا أنْ يكون استنَّ لم تستعمله العرب إلَّا في السِّواك.
          وقولها: (أَرْبَعَ عُمرَاتٍ لك) قرأتُه بفتح الميم وضمِّها وإسكَانِها، مثل غرفة وحجرةٍ، وعدَّ عمرة الحُدَيبِيَة، ومقتضاه أنَّها تامَّةٌ، لكنَّه صُدَّ ولا قضاء عليه خلافًا لأبي حنيفةَ، و(الحُدَيبِيَة) تُخفَّف ياؤها وتُشدَّد، وكَانَت في ذي القَعْدَةِ سنة ستٍّ، وعمرة القضيَّة سنة سبعٍ، سُمِّيت بذلك لأنَّه قاَضى أهل مَكَّةَ أنْ يعتمر في العام المقبل، ويُقال لها عمرة القضاء، ولا يتوهَّم أنَّه القضاء الشَّرعيُّ.
          و(عُمْرَةُ الجِعِرَّانة) سنة ثمانٍ بعد فراغه مِنْ حُنينٍ والطَّائف، وانصرف مِنْهَا في آخر ذي القَعْدَةِ.
          وإنَّما بيَّن أنسٌ أنَّهنَّ في ذي القَعْدَةِ تنبيهًا على الاعتمار في أشهر الحجِّ، وإنْ أنكره المشركون، ويجوز أنْ يكون أَحْرَمَ في شوَّالٍ وأتمَّها في ذي القَعْدَةِ، فنظر أحدهما لوقت الإحرام، والآخر لوقت الإحلال، قاله الدَّاوُدِيُّ. وَقِيلَ: إنَّ عمرتين كَانَتا في شوَّالٍ، وعمرةً في ذي القَعْدَةِ، قال: وقول مَنْ قال: اعتمر قبل أنْ يحجَّ، ليس بحُجَّةٍ لأنَّ الحجَّ لم يفرض عليه حتَّى حجَّ للوداع، ولم يكن المسلمونَ يتقدَّمونه بأداء فرضه.
          قلت: الحجُّ فُرِض سنةَ ستٍّ على المشهور فلا إشكال، وقول أنسٍ: (اعْتَمَرَ حَيثُ رَدُّوهُ، وَمِنَ القَابِلِ عُمْرَةَ الحُدَيبِيَة، وَعُمْرَةً فِي ذِي القَعْدَةِ) أراه وهمًا لأنَّ الصَّواب أنَّ الَّذِي رُدَّ فيها (عُمْرَةَ الحُدَيبِيَة) عام ستٍّ، واعتمر مِنْ قابلٍ ولم يَرِد كذا في كتاب ابن التِّينِ ولا وهْم فيه لأنَّ قوله: (عُمْرَةَ الحُدَيبِيَة) لبيان الَّتِي ردُّوه فيها، وَقوله: (وَعُمْرَةً فِي ذِي القَعْدَةِ) بيانٌ للقابلة، وفي «مسند يعقوب بن شَيبَةَ» قال نافعٌ: لم يعتمر النَّبيُّ صلعم مِنَ الجِعِرَّانة، ولو اعتمر لم يخْفَ ذَلِكَ على ابن عُمَرَ.