شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب تمني المريض الموت

          ░19▒ بابُ تَمَنِّي المَرِيْضِ المَوْتَ.
          فيه: أَنَسٌ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ الْمَوْتَ مِنْ مَرَضٍ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ(1) الْحَيَاةُ خَيْرًا لي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لي). [خ¦5671]
          وفيه: قَيْسُ بنُ أبي حَازِمٍ: دَخَلْنَا على خَبَّابٍ نَعُودُهُ _وَقَدِ اكْتَوَى بِسَبْعِ كَيَّاتٍ_ فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذينَ سَلَفُوا مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنيا، وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لَمْ نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلا التُّرَابَ، وَلَوْلا أَنَّ النَّبيَّ صلعم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ لَيُؤْجَرُ في كُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ إِلا في شَيْءٍ يَجْعَلُهُ في هَذَا التُّرَابِ. [خ¦5672]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِفَضْلٍ رَحْمَتِهِ، فَسَدِّدُوا وَقَرِّبُوا(2)، وَلَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وأمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ). [خ¦5673]
          وفيه: عَائِشَةُ: (قَالَ النَّبيُّ صلعم وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيَّ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ). [خ¦5674]
          قال المؤلِّف: نهى النَّبيُّ صلعم أمَّته عن تمنِّي الموت عند نزول البلاء بهم وأمرَهم أن يدعوا بالموت ما كان الموت خيرًا لهم، وقال(3) في حديث أبي هريرة: (لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ المَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وإِمَّا مُسِيْئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبْ).
          قال الطَّبري: فإن قيل: هذا الحديث جاء بلفظ (لَعَلَّ) وهي موضوعة لغير التَّحقيق، قيل: قد جاء هذا الحديث بلفظ (إِنَّ) الَّتي هي موضوعة للتَّحقيق مِن رواية مَعْمر عن هَمَّام بن مُنَبِّه عن أبي هريرة قال: قال النَّبيُّ صلعم: ((لَا يَتَمَنَّ(4) أَحَدُكُمُ المَوْتَ وَلَا يَدْعُو بِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُم انْقَطَعَ أَمَلُهُ وَعَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيْدُ المُؤْمِنَ عُمُرُهُ إِلَّا خَيْرًا)) فإن قال قائل: إنَّ قول النَّبيِّ صلعم عند موتِه: (اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ) تمنٍّ للموت، وذلك معارض للأحاديث المتقدمة وقد تمنَّى الموت عُمَر بن الخطاب وعلي بن أبي طال ☻.
          فأمَّا حديث عمر فرواه مَعْمر عن علي بن زيد عن الحسن عن سعيد بن أبي العاص قال: رصدت عمر ليلة فخرج إلى البقيع وذلك في السَّحر، فاتَّبعتُه فصلى ثم رفع(5) يديه فقال(6): اللَّهُمَّ كبرت سنِّي وضعفت قوَّتي وخشيت الانتشار مِن رعيَّتي فاقبضني إليك / غير عاجز ولا ملوم. قال الزُّهري عن ابن المسيَّب: فما انسلخ الشَّهر حتَّى مات.
          وأمَّا حديث علي فرواه مَعْمر عن أيُّوب عن ابن سيرين عن عَبيدة قال: سمعت عليًّا يخطب فقال: اللَّهُمَّ إنِّي(7) قد سئمتُهم وسئموني فأرحني منهم وأرحهم(8) منِّي، ما يمنع أشقاكم أن يخضبَها بدم، وأشار إلى لحيتِه.
          قيل: لا تعارض بين شيء ممَّا ذكرت ولكلِّ خبر منها وجه صحيح، فأمَّا قول النَّبيِّ صلعم: (اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِالرَّفِيْقِ) فإنَّما قال ذلك بعد أن علم أنَّه ميِّت في يومِه ذلك برؤية الملائكة المبشِّرة له عن ربِّه بالسُّرور الكامل، ألا تسمعُه يقول لابنتِه فاطمة حين ندبتْه: (لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيْكِ بَعْدَ اليَوْمِ) فكانت نفسُه مفزعة في اللَّحاق بكرامة الله له(9) والمصير إلى ما وعدَه به مِن سعادة الأبد، وكذلك قالت عائشة: سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: ((لَا يُقْبَضُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ، فَلَمَّا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: الرَّفِيقَ الأَعْلَى عَلِمْتُ أَنَّهُ ذَاهِبٌ وَأَنَّهُ لَا يَخْتَارُنَا)) وهذا خير له مِن كونِه في الدُّنيا وبهذا أمر أمَّتَه صلعم فقال: (إِنْ كَانَ لَابُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُل اللَّهُمَّ تَوَفَّنِي مَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي) وأمَّا حديث عمر وعلي ☻ ففيهما بيان معنى نهيِه صلعم عن تمنِّي الموت، وأنَّ المراد بذلك إذا نزل بالمؤمن ضرٌّ أو ضيق في دنياه فلا يتمنَّى الموت عند ذلك، فأمَّا إذا خشي أن يصاب في دينِه فمباح له أن يدعو بالموت قبل مصابِه بدينِه، ويشهد لصحة هذا قولُه صلعم: ((وَإِذَا أَرَدْتَ بِالنَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ)) فاستعمل عمر ☺ هذا المعنى حين خشي عند كبر سنِّه وضعف قوَّته أن يعجز عن القيام بما فرض الله سبحانه عليه مِن أمر الأمَّة، أو أن يفعل ما يلام عليه في الدُّنيا والآخرة، فلذلك قال: فاقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم، فأجاب الله دعاءه وأمَّاته قبل انسلاخ الشَّهر.
          وكذلك خشي علي بن أبي طالب ☺ مِن سآمتِه لرعيَّتِه وسآمتِهم له أن يحملَهم ذلك على ما يؤول إلى سخط الله ╡ وإلى ما لا يُرقَع فتقُه، فكان ذلك مِن قِبلهم فقتلوه وتقلَّدوا دمَه وباؤوا بإثمِه وهو إمام عدل بَرٌّ تقيٌّ، لم يأت منه(10) ما يستحق عليه التأنيب فضلًا عن غيرِه؛ فلذلك سأل الله تعالى أن يريحَه منهم فليس في شيء مِن ذلك تعارض ولا اختلاف، بل كلُّ ذلك يفسِّر بعضُه بعضًا.
          وقول خَبَّاب: إنَّ المُسْلِمَ لَيُؤْجَرُ(11) فِي كلِّ شيءٍ ينفقُه إلَّا في شيء يجعلُه في هذا التُّراب، يعني البنيان، ومعنى الحديث أنَّ مَن بنى ما يكنُّه ولا غنى به عنه فلا يدخل في معنى الحديث بل هو ممَّا(12) يؤجر فيه، وإنَّما أراد خَبَّاب مَن بنى ما يفضل عنه ولا يضطرُّ إليه فذلك الَّذي لا يؤجر عليه لأنَّه مِن التَّكاثر المُلْهِي لأهلِه.
          وقد تقدَّم بيان هذا المعنى(13) في باب البناء في آخر(14) الاستئذان، وسيأتي معنى قولِه صلعم: (لَا يُدْخِلُ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ) وتأويل قولِه تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف:72]في باب القصد والمداومة على العمل في كتاب الرِّقاق، إن شاء الله تعالى(15).


[1] في (ص): ((كان)).
[2] في (ص): ((وقاربوا)).
[3] قوله: ((وقال)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((لا يتمنى)).
[5] في (ص): ((فصلى فرفع)).
[6] في (ص): ((ثم قال)).
[7] قوله: ((إني)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((فارحمني منهم وارحمهم)).
[9] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((منه)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((ليثاب)).
[12] في (ص): ((ممن)).
[13] قوله: ((بيان هذا المعنى)) ليس في (ص).
[14] زاد في (ص): ((كتاب)).
[15] قوله: ((وسيأتي معنى قوله صلعم... كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى)) ليس في (ص).