شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول المريض: إني وجع، أو: وارأساه، أو: اشتد بي الوجع

          ░16▒ بابُ قَوْلِ المَرِيْضِ إِنِّي وَجِعُ، أَوْ وَارَأْسَاُه أَو اِشْتَدَّ بِيَ الوَجَعُ وَقَوْلِ أَيُّوبَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:83].
          فيه: كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ: (مَرَّ بِيَ النَّبيُّ صلعم وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ، فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَا الْحَلاقَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ أَمَرَنِي بِالْفِدَاءِ). [خ¦5665]
          وفيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: (وَارَأْسَاهْ، فقَالَ(1) النَّبيُّ صلعم: ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرَ لَكِ وَأَدْعُوَ لَكِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلِيَاهْ وَاللهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، فَلَوْ كَانَ ذَاكَ(2) لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ _أَوْ أَرَدْتُ_ أَنْ أُرْسِلَ إلى أبي بَكْرٍ وَابْنِهِ وَأَعْهَدَ...) الحديث. [خ¦5666]
          وفيه: عبدُ اللهِ بنُ مَسْعُود: (دَخَلْتُ على النَّبيِّ صلعم وَهُوَ يُوعَكُ فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: إِنَّكَ لتُوعَكُ(3) وَعْكًا شَدِيدًا؟ قَالَ: أَجَلْ كَمَا يُوعَكُ رَجُلًانِ مِنْكُمْ، قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلا حَطَّ اللهُ(4) سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا). [خ¦5667]
          وفيه: سَعْدٌ: (جَاءَنِي النَّبيُّ صلعم يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي زَمَنَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ...) الحديث. [خ¦5668]
          قال الطَّبري: اختلف العلماء في هذا الباب فقالت طائفة: لا أحد مِن بني آدم إلا وهو يألم مِن الوجع ويشتكي المرض لأنَّ نفوس بني آدم بنيت على الجزع مِن ذلك والألم، فغير قادر أحد على تغييرِها عما خلقَها عليه(5) بارئُها، ولا كُلِّف أحدٌ أن يكون بخلاف الجِبِلَّة الَّتي جُبل عليها، وإنَّما كُلِّف العبد في حال المصيبة أن لا يفعل ما له إلى ترك فعلِه سبيل وذلك ترك البكاء على الرزيَّة والتأوَّه مِن المرض والبليَّة.
          فمَن تأوَّه مِن مرضِه أو بكى مِن مصيبة تحدث عليه أو فعل نظير الشَّيء مِن ذلك(6) فقد خرج مِن(7) معاني أهل الصَّبر ودخل في معاني أهل الجزع، وممَّن رُوي ذلك عنه مجاهد وطاوس، قال مجاهد: يكتب على المريض كلُّ(8) ما تكلَّم به حتَّى الأنين، وقال ليث: قلت لطلحة بن مصرِّف: إن طاوسًا كرِه الأنين في المرض، فما سُمع لطلحة أنين حتَّى مات.
          واعتلُّوا لقولهم بإجماع الجميع على كراهة شكوى العبد ربَّه على ضرٍّ ينزل به أو شدَّة تحدث به، وشكواه ذلك إنَّما هو ذكرُه للنَّاس ما امتحنَه به ربُّه ╡(9) على وجه الضَّجر به، قالوا: فالمتأوِّه المتوجِّع(10) في معنى ذاكره للنَّاس متضجِّرًا به أو أكثر منه(11).
          وقال آخرون: ليس الَّذي قال هؤلاء بشيء، وقالوا: إنَّما الشَّاكي ربه ╡ مَن أخبر عما أصابَه مِن الضرِّ والبلاء متسخِّطًا قضاءَ الله فيه، فأمَّا مَن أخبر به إخوانه ليدعوا له بالشِّفاء والعافية وأنَّ استراحتَه إلى الأنين والتَّأوُّه فليس ذلك بشاكٍ ربه ╡، وقد شكا الألم والوجع المؤذي النَّبيُّ صلعم وأصحابُه وأنَّ جماعة مِن القدوة ممَّن ذكرهم البخاري في هذا الباب وغيرَهم، روي عن الحسن البصري أنَّه دخل عليه أصحابُه وهو يشتكي ضرسَه، فقال: رب مسَّني الضُّرُّ وأنت أرحم الراحمين، وهذا القول أولى بالصَّواب لما يشهد له مِن فعل النَّبيِّ صلعم وأصحابُه، وأيضًا فإنَّ الأنين مِن ألم العلَّة والتَّأوُّه قد يغلبان الإنسان ولا يطيق كفَّهما عنه، ولا يجوز إضافة مؤاخذة العبد به إلى الله ╡ لأنَّه تعالى قد أخبر أنَّه لا يكلِّف نفسًا إلا وسعَها، وليس في ترك(12) وسع ابن آدم ترك الاستراحة إلى الأنين عند الوجع يشتدُّ به والألم ينزل به فيُؤمر به أو يُنهى عن خلافِه. /


[1] في (ص): ((قال)).
[2] في (ص): ((ذلك)).
[3] في (ص): ((توعك)).
[4] قوله: ((الله)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((خلقها الله)).
[6] في (ص): ((فعل نظيراً لذلك)).
[7] في (ص): ((عن)).
[8] قوله: ((كل)) ليس في (ص).
[9] قوله: ((ربه ╡)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((فالمتوجع المتأوه)).
[11] زاد في (ص): ((به)).
[12] قوله: ((ترك)) ليس في (ص).