شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الأكفاء في الدين

          ░15▒ بَابُ الأَكْفَاءِ في الدِّينِ
          وَقولُ اللهِ تَعَالَى(1): {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا فجعلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}(2)[الفرقان:54]
          فيهِ عَائِشَةُ: (أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بنَ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ بنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ شَهِدَ(3) بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صلعم تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ ابنةَ(4) أَخِيهِ هِنْدًا بِنْتَ الوَلِيدِ بنِ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ _وَهُوَ مَوْلًى لامْرَأَةٍ مِنَ الأنْصَارِ_ كَمَا تَبنَّى النَّبِيُّ صلعم زَيْدًا) الحديثَ. [خ¦5088]
          وفيهِ عَائِشَةُ: (دَخَلَ النَّبِيُّ صلعم على ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ(5) لَهَا: لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ؟ قَالَتْ: لاَ وَاللهِ مَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً، قَالَ لَهَا: حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي، وَكَانَتْ تَحْتَ المِقْدَادِ بنِ الأسْوَدِ). [خ¦5089]
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيَّ صلعم: (تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلدِينِهَا(6)، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ). [خ¦5090]
          فيهِ(7) سَهْلٌ: (مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟ قَالُوا(8): حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ(9) يُسْمَعَ، ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟ قَالُوا(10): حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، / وَإِنْ قَالَ أَنْ ألا يُسْمَعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا). [خ¦5091]
          اختلف العلماء في الأكفاء مَنْ هُمْ؟ فقال مالكٌ: الأكفاء في الدِّين دون غيره، والمسلمون بعضهم لبعضٍ أكفاءٌ، ويجوز أنْ يتزوَّج العربيُّ والمولى القرشيَّة، رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ بن الخَطَّابِ قال: لست أبالي إلى أيِّ المسلمين نكحت وأيُّهم أنكحت.
          ومثله(11) عن ابنِ مَسْعُودٍ، ومِنَ التَّابعين عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ وابنِ سِيرِينَ، وقال أبو حنيفةَ: قريشٌ كلُّهم أكفاءٌ بعضهم لبعضٍ، والعرب كلُّهم(12) أكفاءٌ بعضهم لبعضٍ، ولا يكون أحدٌ مِنَ العربِ كفؤًا لقريشٍ، ولا أحدٌ مِنَ الموالي كفؤًا للعربِ، ولا يكون كفؤًا مَنْ لا يجد المهر والنَّفقة.
          وقال الشَّافعيُّ: ليس نكاح غير الكفء بمحرَّمٍ(13) فأردُّه بكلِّ حالٍ، وإنَّما هو(14) تقصيرٌ بالمتزوِّجة والأولياء، فإنْ تزوَّجت غير كفءٍ، فإنْ رضيت به وجميع الأولياء جاز، ويكون حقًّا لهم تركوه، وإنْ رضيت به وجميع الأولياء إلَّا واحدًا منهم فله فسخه.
          وقال بعضهم: إنْ رضيت به وجميع الأولياء لم يجز، وكان الثَّوْرِيُّ يرى التَّفريق إذا نكح مولًى عربيَّةً، ويشدَّد(15) فيه، وقال أحمدُ بنُ حنبلٍ: يُفَرَّق بينهما.
          واحتجَّ الَّذين جعلوا الكفاءة(16) في النَّسبِ والمالِ، فقالوا: العار يدخل على الأولياء والمناسبين؛ لأنَّ حقَّ الكفاءة دفع العار عنها(17) وعنهم، قالوا: وقد رُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: قريشٌ بعضهم لبعضٍ كفؤٌ، والموالي بعضهم لبعض ٍكفؤٌ، إلَّا الحاكة والحجَّامين.
          واحتجَّ أهل المقالة الأولى بحديث عائشةَ: أنَّ أبا حُذَيْفَةَ بن عُتْبَةُ بن رَبِيْعَةَ تبنَّى سالمًا وأنكحه بنت أخيه الوَلِيدِ بنِ عُتْبَةَ، وهي سَيِّدَةُ أيامى قريشٍ، وسالمٌ مولًى لامرأةٍ مِنَ الأنصارِ، وتزوَّج ضُبَاعَةُ بنت الزُّبَيْرِ بن عبدِ المُطَّلِبِ بنت عمِّ(18) النَّبِيِّ صلعم المِقْدَادَ بنَ الأَسْوَدِ، وهو عربيٌّ حليفٌ للأسودِ بن عبدِ يغوثَ تبنَّاه ونُسِبَ إليه.
          واحتجُّوا بقوله ◙: ((عَلَيْكَ(19) بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ))، فجعل العمدة ذات الدِّينِ، فينبغي أنْ تكونَ العُمدة في الرَّجل مثل ذلك، ألا ترى قوله ◙ في حديث سَهْلٍ حين فضَّل الفقير الصَّالح على الغنيِّ، وجعله خيرًا مِنْ ملء الأرض منه(20).
          وقال المُهَلَّبُ: الأكفاء في الدِّين هم المتشاكلون وإنْ كانَ في النَّسب تفاضلٌ، فقد نسخ الله تعالى ما كانت تحكم به العرب في الجاهليَّة مِنْ شرفِ الأنساب وجعل الاعتبار بشرفِ الصَّلاح والدِّين(21)، فقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13](22)، وقد نزع بهذه(23) الآية مالكُ بنُ(24) أَنَسٍ.
          وأمَّا قولهم: إنَّ العارَ يدخل عليها وعلى الأولياء(25)، فيُقال(26) لهم: مع الدِّين والصَّلاح لا يدخلُ عارٌ(27) على أحدٍ، وإنَّما رغبوا فيه لدينه الَّذي يحمل كلَّ شيءٍ، وفي النَّسب(28) وعدم الدِّين كلِّ عارٍ، وقد تزوَّج بِلَالٌ امرأةً قرشيَّةً، وتزوَّج أُسَامَةُ بنُ زيدٍ فاطمةَ بنتَ قَيْسٍ، وهي قرشيَّةٌ.
          وقد كان(29) عزمَ عُمَرُ بنُ الخطَّاب على تزويج ابنته مِنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، فقال(30) عَمْرُو بنُ العاصيِّ(31) لسَلْمَانَ: لقد تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سَلْمَانُ: لمثلي يُتواضع، والله لا أتزوَّجها أبدًا(32)، ولولا أنَّ ذلك جائزٌ لما أراده عُمَرُ ولا همَّ به؛ لأنَّه لا يدخل العار على نفسه وعشيرته، وأمَّا حديث ضُبَاعَةَ في الاشتراط في الحجِّ، فإنَّما ذكره في هذا الباب لقوله في آخر الحديث: (وَكَانَتْ(33) تَحْتَ المِقْدَادِ بنِ الأَسْوَدِ).
          واختلف العلماء في الاشتراط في الحجِّ، فأجازه طائفةٌ وأخذوا بهذا الحديث، فالاشتراط أنْ يقولَ عند إحرامه: لبَّيك اللَّهُمَّ بحجَّةٍ أو عُمْرَةٍ(34)، إلَّا أنْ يمنعني منه ما لا أقدر معه على النُّهوض(35)، فيكون محلِّي حيث حبستني ولا شيء عليَّ.
          ومِمَّن أجاز ذلك: عُمَرُ بن الخَطَّابِ وعُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ وعليٌّ وابنُ مَسْعُودٍ وعَمَّارُ وابنُ عبَّاسٍ، ومِنَ التَّابعين: سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ وعُرْوَةُ وعَطَاءٌ وعَلْقَمَةُ وشُرَيْحٌ وعَبِيْدَةُ، وذكر(36) ذلك ابنُ أبي شَيْبَةَ وعبدُ الرَّزَّاقِ، وقال به بعض أصحاب الشَّافعيِّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ.
          وأنكر الاشتراط طائفةٌ أخرى، وقالوا: / هو باطلٌ رُوِيَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ وعائشةَ، وهو قول النَّخَعِيِّ والحَكَمِ وطاوسٍ وسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وإليه ذهب مالكٌ والثَّوريُّ وأبو حنيفةَ، وقالوا: لا ينفعه الاشتراط(37)، ويمضي على إحرامه حَتَّى يتمَّ(38)، وكان ابن عُمَرَ يُنكر ذلك، ويقول: أليس حسبكم سنَّة رسول الله صلعم أنَّه لم يشترط، فإنْ حبس أحدكم بحابسٍ(39) عن الحجِّ، فليأتِ البيت فليطُفْ به وبين الصَّفا والمروة ويحلق أو يقصِّر، وقد حلَّ مِنْ كلِّ شيءٍ حَتَّى يحجَّ قابلًا، ويهدي أو يصوم إنْ لم يجدْ هديًا.
          وأنكر ذلك طاوسٌ وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وهما رَوَيَا الحديث عن ابنِ عبَّاسٍ، وأنكره الزُّهْرِيُّ، وهو روى الحديث عن عُرْوَةَ، وهذا(40) كلُّه مِمَّا يوهنُ الاشتراط.
          قالَ المُهَلَّبُ: وفي قوله ◙: (تُنْكَحُ المرأةُ لِمَالِهَا) دليلٌ على(41) أنَّ للزَّوج الاستمتاع بمال الزَّوجة، وأنَّه(42) يُقصد لذلك، فإنْ طابَتْ به نفسًا فهو له(43) حلالٌ، وإنْ منعته فإنَّما له مِنْ ذلك بقدرِ ما بَذَلَ مِنَ الصَّداقِ.
          واختلفوا إذا أصدقها وامتنعتِ الزَّوجة أنْ تشتري شيئًا مِنَ الجهازِ، فقال مالكٌ: ليس لها أنْ تقضيَ منه(44) دينَها، ولا أنْ(45) تُنفِقَ منه في غيرِ ما يُصلِحُها لعرسها إلَّا أنْ يكونَ الصَّداق شيئًا كثيرًا فتنفق منه شيئًا يسيرًا في دينها.
          وقال أبو حنيفةَ والثَّوْرِيُّ والشَّافعيُّ: لا تجبر على شراء ما لا تُريد، والمهر لها تفعل فيه ما شاءتْ، واحتجُّوا بإجماعهم أنَّها لو ماتت والصَّداق بحاله أنَّ حكمَه كحكمِ سائر مالها، فإذا كان ذلك حكمه بعد وفاتها، فحكمُه كذلك في حياتها كحكم سائر مالها(46).
          وقوله ◙: (تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِمَالِهَا) يدلُّ على أنَّ للزَّوج الاستمتاع بمالها والارتفاق بمتاعها، ولولا ذلك لم يفدنا قوله: (تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِمَالِهَا) فائدةً، ولتساوت الغنيَّة والفقيرةُ(47) في قلَّة الرَّغبة فيها، فقول مالكٍ أشبه بدليل الحديث.
          وقوله: (فَاظفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) فإنَّ حقيقة هذه اللَّفظة عند أهل الُّلغة يُراد بها الإخبار عن حلول الفقرِ، وقال(48) ابنُ السِّكِّيتِ: يُقال: تَرِبَت يَدَاه، إذا افتقر، وقال أبو(49) عَمْرٍو: أصابها(50) التُّراب، ولم يدعُ عليها(51) بالفقر.
          وقال الأَصْمَعِيُّ في تفسير الحديث: لم يردِ النّبِيُّ صلعم الدُّعاء عليهما(52) بالفقر، وإنَّما أراد به الاستحثاث كما يقول الرَّجل(53): انجُ(54) ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، إذا استعجلته، وأنت لا تُريد أنْ تثكلَه(55) أُمُّهُ.
          وقال ابنُ قُتَيْبَةَ: هذا(56) مِنْ بابِ الدُّعَاءِ الَّذي(57) لا يُراد به الوقوعُ، وسأورد(58) أقوال أهل اللُّغةِ في هذه الكلمةِ في كتاب الأدب في قول باب(59) النَّبيِّ صلعم: ((تَرِبَتْ يَمِيْنُكَ)) [خ¦6156] و: ((عَقْرَى حَلْقَى)) إن شاء الله تعالى [خ¦6157].


[1] قوله: ((وقول الله تعالى)) ليس في (ز) و(ص).
[2] قوله: (({فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا})) ليس في المطبوع و(ص).
[3] في (ز): ((أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ كَانَ شَهِدَ بَدْرًا)).
[4] في (ز): ((بنت)).
[5] في (ص): ((قال)).
[6] في (ز): ((ودينها)).
[7] في (ز): ((وفيه)).
[8] في (ص): ((قال)).
[9] قوله: ((أنْ)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((فقالوا)).
[11] في (ز): ((روي مثله)).
[12] قوله: ((كلُّهم)) ليس في (ز).
[13] في (ز): ((محرَّمًا)).
[14] قوله: ((هو)) ليس في (ز).
[15] في (ز): ((وشدَّد)).
[16] في (ز): ((الكفاية)).
[17] في (ز): ((عنهما)).
[18] قوله: ((عمِّ)) ليس في (ز)، وغير واضحة في (ص).
[19] في (ز): ((فعليك)).
[20] قوله: ((منه)) ليس في (ز).
[21] في (ز): ((مِنْ شرف الأنساب لشرف الصَّلاح والدِّين)).
[22] في المطبوع: (({وأنثى}، الآية))، وفي (ص): (({مِنْ ذَكَرٍ...} الآية)).
[23] في المطبوع: ((هذه)).
[24] قوله: ((ابن)) ليس في (ص).
[25] في (ز): ((أوليائها)).
[26] في (ص): ((فقال)).
[27] في (ز): ((العار)).
[28] زاد في (ز): ((عدم)).
[29] في (ص): ((وكان قد)).
[30] في (ز): ((حتَّى قال)).
[31] في المطبوع: ((العاص)).
[32] في (ز): ((لا تزوجتها)).
[33] في (ز): ((فكانت)).
[34] في المطبوع: ((لبَّيك اللَّهُمَّ بحَجَّةٍ أو حَجَّةٍ وعمرةٍ))، وفي (ز): ((بحجٍّ أو عمرةٍ)).
[35] في (ز): ((ما لا أقدر على النُّهوض معه)).
[36] في (ز): ((ذكر)).
[37] في (ز): ((اشتراط)).
[38] في (ز): ((يتمَّه)).
[39] في (ز): ((حابس)).
[40] في (ص): ((فهذا)).
[41] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[42] في (ص): ((فإنَّه)).
[43] قوله: ((له)) ليس في (ز).
[44] في (ز): ((به)).
[45] في (ص): ((ولأن)).
[46] قوله: ((فإذا كان ذلك حكمه بعد وفاتها، فحكمه كذلك في حياتها كحكم سائر مالها)) ليس في (ص).
[47] في (ز): ((ولساوت الغنيَّة الفقيرة)).
[48] قوله: ((وقال)) ليس في (ز).
[49] في (ز): ((ابن)).
[50] في (ز): ((أصابهما)).
[51] في (ز): ((عليه)).
[52] في (ز): ((عليه)).
[53] في (ز): ((تقول للرَّجل)).
[54] في المطبوع: ((انخ)).
[55] في (ص): ((وأنت لأن لا تثكله)).
[56] في (ز): ((هذا)).
[57] قوله: ((الَّذي)) ليس في (ص).
[58] في (ز): ((وسأتقصى)).
[59] قوله: ((باب)) ليس في (ز).