شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول النبي: من استطاع منكم الباءة فليتزوج

          ░2▒ بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (مَنِ اسْتَطَاعَ(1) البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ)، وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لا إِرْبَ لَهُ في النِّكَاحِ؟
          فيهِ عَلْقَمَةُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ(2) بِمِنًى، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ لي إِلَيْكَ حَاجَةً فَخَلَيا(3)، فَقَالَ عُثْمَانُ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ في أَنْ أُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ؟ فَلَمَّا رَأَى(4) عَبْدُ اللهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ(5) حَاجَةٌ إِلَى(6) هَذَا أَشَارَ لِي، فَقَالَ: يَا عَلْقَمَةُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ أَمَا لَئِنْ(7) قُلْتَ ذَلِكَ(8)، لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبيُّ صلعم: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) [خ¦5065]، وترجم له: بابُ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ البَاءَةَ فلَيصُمْ.
          ذهب جماعةٌ الفقهاء إلى أنَّ النِّكاح مندوبٌ إليه مرغبٌ فيه، وذهب أهل الظَّاهر إلى أنَّه فرضٌ على الرَّجل والمرأة مرَّةً في الدَّهر إنْ كان الرَّجل واجدًا لطول الحُرَّة، وإن عدم لزمه نكاح الأَمَة، واحتجُّوا بظاهر هذا الحديث، وحملوا أمرَه ◙ بالنِّكاح على الإيجاب، قال(9): ولكنَّه أمر لخاصٍّ مِنَ النَّاسِ، وهم الخائفون على أنفسهم العَنَت بتركهم النِّكاح، فأمَّا مَنْ لم يخف العنت، فهو غير مرادٍ بالحديث(10).
          قالوا: وقد بيَّن صِحَّة قولنا إخباره(11) ◙ عن السَّبب الَّذي مِنْ أجله أمر الَّذي يستطيع الباءة بالنِّكاح، وذلك قوله: (فإنَّه(12) أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ)، فَمَنْ قَدِرَ على غضِّ بصره عن المحارم، وتحصين فرجه فغير فرضٍ عليه النِّكاح، ومَنْ كانَ غير قادرٍ على ذلك وخشي مواقعة الحرام، فالنِّكاح فرضٌ عليه(13) لأمر النبيِّ صلعم إيَّاه به.
          واحتجَّ أهل المقالة الأولى بقوله ◙: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصِّيامِ)، وإذا كانَ الصَّومُ الَّذي هو بدلٌ عنِ(14) النِّكاح ليس بواجبٍ فمبدله مثله، وأيضًا فإنَّ جماعةً مِنَ الصَّحابةِ تركوه وهم قادرون عليه وعكفوا على العبادة، فلو كان واجبًا لكان تركه معصيةً، ولا(15) يجوز أنْ يفعلَه الصَّحابةُ وهو معصيةٌ، وخاصَّةً بكون الرَّسول(16) باقيًا، فلمَّا لم ينقلْ عنه ولا عنِ الأئمَّة بعده النَّكير على مَنْ لم يتزوَّج، علم أنَّه غير واجبٍ.
          فإنْ قال أهلُ الظَّاهر: قد قال مُعَاذُ بنُ جبلٍ: زوِّجوني لئلَّا ألقى الله تعالى أعزَب، وقال عُمَرُ لأبي الزَّوَائِدِ: لِمَ لا تتزوَّجْ؟ ما يمنعك منه مع علمك بوجوبه إلَّا عجزٌ أو فجورٌ، قيل: أمَّا مُعَاذٌ فأراد(17) أنْ يلقى الله تعالى على أكمل أحواله؛ لأنَّ النِّكاح مندوبٌ إليه، ويحتمل أنْ يريد عُمَرُ بوجوبه وجوب سُنَّة، وهذا أبو الزَّوَائِدِ مِنَ الصَّحابةِ لم يتزوَّجْ.
          ومِنَ الدَّليل أنَّه غيرُ فرضٍ أنَّه قضاء شهوةٍ، ولم يفرضِ اللهُ تعالى على أحدٍ مِنْ خلقه فرضًا هو شهوةٌ لا يخاف على(18) تركها الهلاك، فإن قالوا: / الغذاء هو شهوةٌ، وقد فرضَ الله ╡ إحياء النُّفوس به، قيل: ليس في ترك الجماع خوف الهلاك كما في فقد الغذاء، فهما غير مشتبهين.
          وإذا كان لا يخاف الهلاك في فقد الجماع، فالفضل في الصَّبر على تركه، إذ الفضل في ترك اللَّذات، وفي إجماع الحجَّة على أنَّ مَنْ صبرَ عنِ النِّكاح ولم يقتحمْ مُحرَّمًا فصبره(19) عنه غير حرجٍ ولا آثمٍ أدلُّ دليلٍ على صِحَّة ما قلناه(20) مِنْ أنَّ أمر النَّبِيِّ صلعم بالنِّكاح على النَّدب لا على الفرض، وهذا(21) قول الطَّبَرِيِّ وابنِ القَصَّارِ وقد تقدَّم تفسير البَاءَة والوِجَاء في كتاب الصِّيام [خ¦1905].


[1] زاد في (ز): ((منكم)).
[2] في (ز): ((فيه ابن عمر أنَّ عثمان لقيه)).
[3] في (ز): ((فخلوا)).
[4] في (ز): ((رآني)).
[5] في (ز): ((لي)).
[6] في (ص): ((إلا)).
[7] في (ز): ((حَاجَةٌ إلى هَذَا قال: أَمَا لَئِنْ)).
[8] في (ص): ((ذاك)).
[9] في (ز): ((قالوا)).
[10] في (ز): ((الحديث)).
[11] في (ز): ((بإخباره)).
[12] قوله: ((فإنَّه)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((عليه)) ليس في (ص).
[14] في (ز): ((من)).
[15] في (ز): ((فلا)).
[16] في (ز): ((رسول الله صلعم)).
[17] في (ز): ((معاذ فإنَّه أحبَّ)).
[18] في (ز): ((مع)).
[19] في (ز): ((بصبره)).
[20] في (ز): ((قلنا)).
[21] في (ز): ((هذا)).