شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من التبتل والخصاء

          ░8▒ بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالخِصَاءِ
          فيهِ سَعْدٌ: (رَدَّ النَّبِيُّ صلعم عَلَى عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا). [خ¦5073]
          وفيهِ ابنُ مَسْعُودٍ: (كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلعم وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ(1)، فَقُلْنَا: أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ المَرْأَةَ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا(2)} الآية[المائدة:87]). [خ¦5075]
          فيهِ(3) أَبُو هُرَيْرَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَى نَفْسِي العَنَتَ، وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ، فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ،(4)، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ(5)، جَفَّ القَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ(6)، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ). [خ¦5076]
          قال المُهَلَّبُ: إنَّما نَهَى ◙ عنِ التَّبَتُّل والتَّرهُّب ِمْن أجل أنَّه يكاثر بأمَّته الأمم يوم القيامة، وأنَّه في الدُّنيا مقاتلٌ بهم طوائف الكفَّار، وفي آخر الزَّمان يقاتلون الدَّجَّال، فأراد ◙ أنْ يكثر النَّسل، وقال الطَّبَرِيُّ: التَّبتُّل الَّذي أراده عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ ما كان عزم عليه مَنْ ترك النِّساء والطَّيب وكلِّ(7) ما يُلتذُّ به، مِمَّا أحلَّه الله / لعباده مِنَ الطَّيِّباتِ والتَّرهُّب، فأنزل الله تعالى في النَّهي عنِ ذلك(8): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(9) لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا(10)} الآية[المائدة:87]، ورُوِيَ هذا عن ابنِ عبَّاسٍ وجماعةٍ.
          فلا يجوز لأحدٍ مِنَ المسلمين تحريم شيءٍ مِمَّا أحلَّه اللهُ لعباده المؤمنين على نفسه مِنْ طيِّباتِ المطاعم والملابس والمناكح إذا(11) خاف على نفسه بإحلال ذلك له(12) بعض العنتِ والمشقَّة أو أمنه، وذلك لردِّ النَّبيِّ ◙ التَّبتُّل على عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ، فثبت أنَّه لا فضلَ في تركِ شيءٍ مِمَّا أحلَّه اللهُ لعبادِهِ، وأنَّ الفضل والبرَّ إنَّما هو في فعل ما نَدب عباده(13) إليه، وعمل به رسوله ◙ وسنَّه لأمَّته، واتَّبعه على منهاجه الأئمَّة الرَّاشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبيِّنا مُحَمَّدٍ(14).
          فإذا(15) كان كذلك تبيَّن خطأ مَنْ آثر لباس الشَّعر والصُّوف على لباس القطن والكتَّان إذا قدر على لبس ذلك مِنْ حلِّه، وأكل(16) الفول والعدس على أكل خبز البرِّ والشَّعير، وترك أكل اللَّحم والودك حذرًا مِنْ عارض الحاجة إلى النِّساء، فإنْ ظنَّ ظانٌّ أنَّ الفضل في غير الَّذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله مِنَ المشقَّة على النَّفس، وصرف فضل ما بينهما مِنَ القيمة إلى أهلِ الحاجة، فقد ظنَّ خطأً.
          وذلك أنَّ أولى للإنسانِ بالنَّفس إصلاحها وعونها له على طاعة ربِّها ولا شيءَ(17) أضرَّ للجسم مِن المطاعم الرَّديَّة؛ لأنَّها مفسدةٌ لعقله، ومضعفةٌ لأدواته الَّتي جعلها الله سببًا إلى طاعاته.
          وفيه أنَّ خصاءَ بني آدم حرامٌ، وذلك أنَّ التَّبتُّل إذ كان منهيًّا عنه ولا جناية فيه على النَّفس غير منعها المباح لها، فمنعها ما فيه جنايةٌ عليها بإيلامها وتعذيبها بقطع بعض الأعضاء أحرى أن يكون منهيًّا عنه، فثبت بهذا أنَّ قطع شيءٍ مِنْ أعضاء الإنسان مِنْ غير ضرورةٍ تدعوه إلى ذلك حرامٌ عليه(18).
          قال(19) المُهَلَّبُ: وقول ابنِ مَسْعُودٍ: ثُمَّ أرخصَ لنا(20) أنْ ننكح بالثَّوب، يعني المتعة، الَّتي كانت حلالًا في أوَّل الإسلام، ثُمَّ نُسِخَت بالعدَّة والميراث والصَّداق، وفي حديث أبي هريرةَ إثبات القدر، وأنَّ المرء لا يفعل باختياره شيئًا لم يكن سبق في علم الله ╡.
          وقال الطَّبَرِيُّ: التَّبتُّل هو ترك شهوات الدُّنيا ولذَّاتها(21)، والانقطاع إلى الله تعالى بالتَّفرُّغ لعبادته، والبتلُ: القطعُ، ومنه قيل لمريمَ: البتول لانقطاعها إلى الله تعالى بالخدمة، ومنه قوله(22): صدقةٌ بتلةٌ، يعني منقطعةٌ عن مالكها، وقال أبو زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ: التَّبتُّلُ: العزوبةُ. قال الطَّبَرِيُّ: وهذا الَّذي قاله أبو زَيْدٍ نوعٌ مِنْ أنواعِ التَّبتُّل.


[1] في (ز): ((شيء)).
[2] قوله: ((ولا تعتدوا)) ليس في (ص).
[3] في (ز): ((وفيه)).
[4] في (ز): ((ثُمَّ قُلْتُ ذَلِكَ ثلاثًا))، وزاد في المطبوع: ((فسكنت عني)).
[5] قوله: ((يا أبا هريرة)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((بما أنت لاق)) ليس في (ص).
[7] في (ز): ((وأكل)).
[8] قوله: ((في النَّهي عن ذلك)) ليس في (ص).
[9] قوله: ((آمنوا)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((ولا تعتدوا)) ليس في (ص).
[11] قوله: ((إذا)) ليس في (ز).
[12] قوله: ((له)) ليس في (ز).
[13] قوله: ((عباده)) ليس في (ص).
[14] في (ز): ((نبيِّنا ◙)).
[15] في (ز): ((وإذا)).
[16] في (ز): ((وآثر أكل)).
[17] في (ز): ((وذلك أنَّ أولى الأجسام بالمرء إصلاحها أعونها له على طاعة ربِّه ╡ فلا شيء))، وفي حاشية (ص) كلام غير واضح.
[18] قوله: ((عليه)) ليس في (ص).
[19] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[20] قوله: ((أنْ)) ليس في (ص).
[21] في (ز): ((بذات الدُّنيا وشهوتها)).
[22] في (ز): ((قولهم)).