شرح الجامع الصحيح لابن بطال

الترغيب في النكاح

          ░1▒ بابُ التَّرْغِيبِ في النِّكَاحِ
          لِقَوْلِهِ تَعَالَى(1): {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية[النِّساء:3].
          فيهِ أَنَسٌ: (جَاءَ ثَلاثَةُ(2) رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلعم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلعم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا، كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وأَيْنَ(3) نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلعم، وقَدْ غَفَرَ اللهُ(4) لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فقَالَ(5) أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا، فَأصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ(6) وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا، وَكَذَا؟ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، ولَكِنِّي(7) أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي). [خ¦5063]
          وفيهِ عَائِشَةُ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى(8)}[النِّساء:3]، قَالَتْ: هِيَ اليَتِيمَةُ تَكُونُ في حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ في مَالِهَا وَجَمَالِهَا، يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ(9)، فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ سِوَاهُنَّ(10) مِنَ النِّسَاءِ. [خ¦5064]
          قال أهلُ التَّفسير في قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم}[النِّساء:3(11) يعني فانكحوا ما أحللت لكم مثنًى وثلاثَ ورباعَ.
          قال(12) المُهَلَّبُ: في هذا الحديث مِنَ الفقهِ أنَّ النِّكاحَ مِنْ سُنَنِ الإسلامِ، وأنَّه لا رهبانيَّة في شريعتنا، وأنَّ مَنْ تركَ النِّكاح رغبةً عن سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صلعم فهو مذمومٌ مبتدعٌ، ومَنْ تركَهُ مِنْ أجل أنَّه أوفقُ له وأعونُ على العبادة فلا ملامةَ عليه؛ لأنَّه لم يرغبْ عن سُنَّة نبيِّه صلعم وطريقته، وفيه الاقتداء بالأئمَّة في العبادة، والبحث عن أحوالهم وسِيَرِهم في الَّليل والنَّهار، وأنَّه لا يجبُّ أنْ يتعدَّى طرق الأئمَّة الَّذين وضعهم اللهُ ليُقْتَدى بهم في الدِّين والعبادة، وأنَّه مَنْ أرادَ الزِّيادة على سِيَرهم فهو مقلٌّ(13)، فإنَّ(14) في العبادة(15) في التَّوسُّط والقصد(16) أولى حَتَّى لا يعجز عْن شيءٍ منها، ولا ينقطع دونها، لقوله ◙: ((خَيْرُ العَمَلِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ)).
          وفي تفسير عائشةَ للآية مِنَ الفقه ما قال به مالكٌ مِنْ صداقِ المثل، والردِّ إليه فيما فسد صداقُه، ووقع الغبنُ في مقداره لقوله(17): مِنْ سُنَّة صداقها، فوجب أنْ يكونَ الصَّداق معروفًا لكلِّ طبقةٍ مِنَ النَّاسِ على قدر أحوالهم، وقد قال مالكٌ: للنَّاس مناكحُ قد عُرفت لهم، وعُرفوا بها، أي إنَّ للنَّاس صدقاتٍ وأكفاءَ، فإذا كان الله تعالى قد / نهى عن نكاح اليتيمة حتَّى يبلغها صَدَاق مثلها، فواجبٌ(18) ألَّا يجوز نكاحٌ بقبضة تِبْنٍ، ولا بما لا خطر له ولا حطب، كما قال بعض الَّناس، والَّذي أصَّله مالكٌ في(19) أقلِّ الصَّداق، هو(20) الَّذي يؤدِّي إليه النَّظر على كتاب الله تعالى، ويصحِّحه القياس مِنْ أنَّه لا يُستباحُ(21) عضو مسلمةٍ بأقلَّ مِمَّا استباحه النَّبِيُّ صلعم مِنْ عضو مسلمٍ بالسَّرقة، وذلك ربع دينارٍ فما كان أقلَّ مِنْ ذلك فخلاف للسُّنَّة، وستأتي مذاهب العلماء في هذه المسألة بعد هذا إنْ شاء الله(22).
          وفيهِ أنَّ تفسير القرآن لا يُؤخذُ إلَّا عمَّنْ له علمٌ به، كَما كانت عائشةُ أولى النَّاس بعلمه مِنْ قِبَلِ الرَّسول ◙ لاختصاصها به.
          وفيه أنَّ المرأة غير اليتيمة لها أنْ تُنكَح بأدنى مِنْ صداق مثلها؛ لأنَّه تعالى إنَّما(23) حرج ذلك في اليتامى، وأباح سائر النِّساء(24) بما أجبن إليه مِنَ الصَّداق، هذا مفهومٌ مِنَ الآية.
          وفيه أنَّ لوليِّ(25) اليتيمة(26) أنْ ينكحها مِنْ نفسه إذا عدل في صداقها.


[1] في المطبوع: ((قوله تعالى))، وفي (ص): ((لقول الله تعالى)).
[2] في (ص): ((ثلاث)).
[3] في (ز): ((أين)).
[4] قوله: ((الله)) ليس في (ز).
[5] في (ز): ((قال)).
[6] في (ص): ((أبدًا)).
[7] في (ص): ((لكنِّي)).
[8] زاد في (ز): ((فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)).
[9] قوله: ((لهنَّ)) ليس في (ز).
[10] في المطبوع: ((بنكاح من سواهن)).
[11] قوله: ((قال أهلُ التَّفسير في قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم} [النِّساء: 3])) ليس في (ص).
[12] في (ز): ((وقال)).
[13] في المطبوع: ((مفسد)).
[14] في (ز): ((وإنَّ)).
[15] في حاشية (ص): ((الدِّين)).
[16] في (ز): ((وإنَّ الأخذ بالتَّوسُّط والقصد في العبادة)).
[17] في المطبوع: ((لقولها)).
[18] في (ز): ((فوجب)).
[19] قوله: ((في)) ليس في (ص).
[20] في (ز): ((هو)).
[21] في (ص): ((يستمتع)).
[22] قوله: ((إنْ شاء الله)) ليس في (ص).
[23] قوله: ((إنَّما)) ليس في (ز).
[24] في (ص): ((النَّاس)).
[25] في (ز): ((ولي)).
[26] زاد في (ز): ((له)).