شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب اتخاذ السراري، ومن أعتق جاريته ثم تزوجها

          ░13▒ بابُ اتِّخَاذِ السَّرَارِيِّ وَمَنْ أَعْتَقَ جَاريةً(1)، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا
          فيهِ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةً، فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ) الحديثَ. [خ¦5083]
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَن ِالنَّبيِّ صلعم: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ ◙ إِلَّا ثَلاثَ كَذِبَاتٍ: بَيْنَمَا(2) إِبْرَاهِيمُ صلعم مَرَّ بِجَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ) _وَذَكَرَ الحَدِيثَ_: (فَأَعْطَاهَا هَاجَرَ، قَالَتْ: كَفَّ اللهُ يَدَ الكَافِرِ وَأَخْدَمَنِي هَاجَرَ). [خ¦5084]
          وفيهِ أَنَسٌ: (أَقَامَ(3) الرَّسُولُ صلعم(4) بَيْنَ خَيْبَرَ وَالمَدِينَةِ ثَلاثًا يبْنَي عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، فَدَعَوْتُ المُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ(5) إلَّا التَّمْرِ وَالأقِطِ وَالسَّمْنِ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، أَوْ ما مَلَكَتْ(6) يَمِينُهُ، فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فهي مِنْ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا، فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ(7)، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ). [خ¦5085]
          قال المؤلِّفُ: اتِّخاذ السَّراري مباحٌ لقوله ╡: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}[المؤمنون:6]، فأباح(8) ملك اليمين كما أباح ملك(9) النِّكاح، ورغَّب ◙ في عتق الإماء وتزويجهنَّ بقوله: إِنَّ فاعلُ ذلكَ لَهُ أجرانِ، وإنَّما ذكر حديث أبي هريرةَ لما فيه مِنْ هبة الكافر خادمًا لسَارَةَ وقبول إبراهيمَ ◙ لها.
          واختلف العلماء فيمنْ أعتقَ جاريته وتزوَّجها، فذهب قومٌ إلى أنَّه إنْ(10) أعتقها، وجعل عتقها صداقها فذلك جائزٌ، فإنْ تزوَّجته فلا مهر لها غير العتاق على حديث صَفِيَّةَ، رُوِيَ هذا عن أَنَسِ بنِ مالكٍ(11) أنَّه فعله، وهو راوي حديث(12) صَفِيَّةَ، وهو قول سَعِيْدِ بنِ المُسَيَّبِ وطَاوُسٍ والنَّخَعِيُّ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وإليه ذهب الثَّوْرِيُّ وأبو يُوسُفَ وأحمدُ وإِسْحَاقُ.
          وقال آخرون: ليس لأحدٍ بعد رسولِ اللهِ صلعم أنْ يفعلَ هذا، وإنَّما كان ذلك خاصًّا لرسولِ اللهِ صلعم؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباحَ له أنْ يتزوَّجَ بغير صداقٍ، / ولم يجعل ذلك لأحدٍ مِنَ المؤمنين غيره، هذا قول مالكٍ وأبي حنيفةَ وزُفَرٍ ومُحَمَّدٍ والشَّافعيِّ.
          واحتجَّ أهل المقالة الأولى بأنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ رَوَى عنِ النَّبيِّ ◙(13) أنَّه فعل في جُوَيْرِيَّةَ بنتِ الحَارِثِ مثل ما فعله في صَفِيَّةَ أنَّه: ((أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا)) رواه حمَّادُ بنُ زَيْدٍ عن أيَّوبَ عن نافعٍ عنه.
          وقال أهل المقالة الثَّانية: لا حجَّة في خبر جُوَيْرِيَّةَ أيضًا(14)؛ لأنَّ ابنَ عُمَرَ رواه عنِ النَّبيِّ صلعم، وقال: إنَّه خاصٌّ له.
          قال الطَّحَاوِيُّ(15): فنظرنا(16) في عتقِ النَّبِيِّ(17) صلعم جُوَيْرِيَّةَ كيف كان، فروى ابنُ إِسْحَاقَ عن عُمَرَ(18) بنِ جعفرِ بنِ الزُّبَيْرِ عن عُرْوَةَ عن عائشةَ: ((أَنَّه لَمَا أَصَابَ رَسُولَ اللهِ صلعم بَنِي المُصْطَلِقِ، وَقَعَتْ جُوَيْرِيَّةُ بِنْتُ الحَارِثِ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بنِ قَيْسٍ، فَكَاتَبَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَجَاءَتْ تَسْتَعِيْنُ رَسُولَ اللهِ صلعم فِي كِتَابَتِهَا، فَقَالَ لَهَا(19): هَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ، أَقْضِي عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَتَزَوَّجَهَا)).
          فبيَّنت عائشةُ العتاقَ الَّذي ذكره ابنُ عُمَرَ الَّذي جعله مهرَها أنَّه أداؤه(20) عنها كتابتها لتعتق بذلك الأداء، ويكون مهرًا لها، فلمَّا كانَ لرسول الله صلعم أنْ يجعل ذلك مهرًا لها كان ذلك له خاصًّا دون أمَّته، كما كان له(21) خاصًّا أنْ يجعلَ العتاق الَّذي تولَّاه هو مهرًا.
          فإنْ قالَ قائلٌ(22): قد رأيت الرَّجل يعتق أَمَته على مالٍ فتقبله منه(23)، فتكون حُرَّةً، ويجبُ له عليها ذلك المال، فما ننكر إذا أعتقها على أنَّ عتقها صداقها فقبلت ذلك منه أنْ تكون حُرَّةً، ويجبُ ذلك له عليها، قيل: إذا أعتقها على مالٍ فقبلت ذلك منه وجب لها عليه العتاق، ووجب له عليها المال، فوجب لكلِّ واحدٍ منهما بذلك العقد سببًا(24) أوجبه له ذلك العقد لم يكن مالكًا(25) له قبل ذلك.
          وإذا أعتقها على أنَّ عتقها صداقها، فقد ملَّكها رقبتها على أنَّ ملكيَّته(26) بضعها، فملَّكها رقبةً هو لها مالكٌ، ولم تكن هي مالكةٌ لها قبل ذلك، على أنْ ملَّكته بضعًا هو له(27) مالكٌ قبل ذلك، فلم تملِّكه بذلك العتاق شيئًا(28) لم يكن له مالكًا قبله، وإنَّما ملَّكته بعض ما قد(29) كان له، فلذلك لم يجب عليها بذلك العتاق شيءٌ، هذه حجَّةٌ على مَنْ يقول: تكون له زوجةٌ بالعتاق الَّذي هو الصَّداق.
          وفيه مِنَ الفقهِ(30): أنَّه يجوز للسَّيِّد إذا أعتق أَمَتَه أنْ يزوِّجها مِنْ نفسِهِ دون السُّلطان، وكذلك الوليُّ في وليَّتِه، وسيأتي اختلاف العلماء في هذه المسألة في باب إذا كان الوليُّ هو الخاطب بعد هذا، إنْ شاء الله ╡ [خ¦5131].
          قالَ ابنُ المُنْذِرِ: وفي تزويجِ النَّبِيِّ صلعم صَفِيَّةَ مِنْ نفسِهِ إجازةُ النِّكاحِ بغيرِ شهودٍ إذا أعلنَ، وهو قول الزُّهْرِيِّ وأهلِ المدينةِ ومالكٍ وعبدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ وأبي ثَوْرٍ، ورُوِيَ عن ابن عُمَرَ أنَّه تزوَّج ولم يحضُرِ النِّكاح(31) شاهدين، وأنَّ الحَسَنَ بنَ عليٍّ زوَّج عبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيْرِ وما معهما أحدٌ مِن النَّاس ثُمَّ أعلنوه بعد ذلك.
          وقالت طائفةٌ: لا يجوز نكاحٌ إلَّا بشاهدي عدلٍ، رُوِيَ ذلك عن ابن عبَّاسٍ وعَطَاءٍ والنَّخَعِيِّ وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ والحَسَنِ، وبه قال الثَّوْرِيُّ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ بن حنبلٍ، وقال أبو حنيفةَ: لا يجوز النِّكاح إلَّا بشاهدين، ويجوز أنْ يكونا محدودين في قذفٍ أو فاسقين أو أعميين، وأجمع العلماء(32) على ردِّ شهادة الفاسقِ.
          وكان يزيدُ بنُ هارونَ يعتبُ(33) أصحاب الرَّأي، ويقول: أمرنا(34) الله بالإشهاد عند التَّبايع، فقال تعالى: {وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ}[البقرة:282]، وأمر بالنِّكاح ولم يأمر بالإشهاد عليه، فزعم أصحاب الرَّأي أنَّ البيع الَّذي أمرَ اللهُ بالإشهاد عليه جائزٌ مِنْ غيرِ(35) شهودٍ، وأنَّ النِّكاح الَّذي لم يأمر بالإشهاد عنده لا يجوز إلَّا بشهودٍ، قال ابنُ المُنْذِرِ: وقد اختلف في ذلك أصحابُ الرَّسولِ(36)، وجاءَ الحديثُ الثَّابت الدَّال على إجازةِ النِّكاح مِنْ غير(37) شهودٍ، وهو حديث تزويج الرَّسول(38) صَفِيَّةَ، ألا ترى أنَّ أصحابه اختلفوا فلم يعرفوا إن كانت زوجةً له أو ملك يمينٍ، واستدلُّوا على أنَّه تزوَّجها بالحجاب.
          فدلَّ ذلك على أنَّه ◙ لم يُشْهِدْهُم على نكاحها(39)، واجتزأ فيه بالإعلان(40)، ولو كان هناك شهودٌ ما خَفِيَ / ذلك عليهم(41)، وفيه الحكم بالدَّليل.
          ووقع في المغازي في(42) هذا الكتاب في هذا الحديث(43) كلمةٌ مِنَ الغريبِ، وهو(44): ((يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ(45))) [خ¦4211] أي يديرُ كساءً حول سنام البعير لتركب عليه، وهو الحَوِيَّة.
          قال(46) الأَصْمَعِيُّ: والحَوِيَّة: كساءٌ محشوٌّ بثمامٍ أو ليفٍ يُجْعَلُ على ظهر البعير، وفي قصَّة بدرٍ: أنَّ أبا جهلٍ بعثَ عُمَيْرَ بنَ وَهْبٍ ليحزر أصحاب رسولِ اللهِ صلعم، فطافَ عُمَيْرٌ برسولِ اللهِ صلعم، فلمَّا رجعَ قال: رأيت الحوايا عليها المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت النَّاقع.


[1] في المطبوع: ((جاريته)).
[2] في (ص): ((بينا)).
[3] في (ص): ((قام)).
[4] في (ز): ((النَّبيُّ صلعم)).
[5] زاد في المطبوع: ((أمر)).
[6] في المطبوع: ((أو ممَّا ملكت)).
[7] قوله: ((فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فهي مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا، فهي مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ)) ليس في (ز).
[8] في (ز): ((وأباح تعالى)).
[9] قوله: ((ملك)) ليس في (ز).
[10] في (ز): ((إذا)).
[11] قوله: ((ابن مالك)) ليس في (ص).
[12] في (ز): ((خبر)).
[13] في (ز): ((رسول الله صلعم)).
[14] قوله: ((أيضًا)) ليس في (ص).
[15] في (ص): ((الطَّبريُّ)).
[16] في (ز): ((ونظرنا)).
[17] في (ز): ((عتاق رسول الله)).
[18] في (ز): ((محمَّد)).
[19] قوله: ((لها)) ليس في (ز).
[20] في (ز): ((أدَّاه)).
[21] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[22] قوله: ((قائل)) ليس في (ص).
[23] في المطبوع: ((فتقبَّل منه))، وفي (ز): ((وتقبَّل ذلك منه)).
[24] في (ز): ((شيء)).
[25] في (ص): ((مالك)).
[26] في (ص): ((ملكته)).
[27] قوله: ((ولم تكن هي مالكةٌ لها قبل ذلك، على أنْ ملَّكته بضعًا هو له)) ليس في (ص).
[28] في (ص): ((شيء)).
[29] قوله: ((قد)) ليس في (ز).
[30] قوله: ((مِنَ الفقه)) ليس في (ز).
[31] قوله: ((النِّكاح)) ليس في (ص).
[32] في (ز): ((أهل العلم)).
[33] غير منقوطة في (ز)، ولعلَّها ((يعيب)).
[34] في (ز): ((أمر)).
[35] في (ز): ((بغير)).
[36] في (ز): ((رسول الله صلعم)).
[37] في (ز): ((بغير)).
[38] في (ز): ((النَّبيُّ صلعم)).
[39] في (ز): ((إنكاحها)).
[40] صورتها في (ز): ((وأخبرني فيه بلا خلاف)).
[41] في (ز): ((عليهم ذلك)).
[42] في (ز): ((من)).
[43] قوله: ((في هذا الحديث)) ليس في (ص).
[44] في (ز): ((وهي قوله)).
[45] قوله: ((وراءه بعباءة)) ليس في (ص).
[46] في (ز): ((وقال)).