شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب تزويج الصغار من الكبار

          ░11▒ بابُ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الكِبَارِ
          فيهِ عُرْوَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم خَطَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، فَقَالَ: أَنْتَ أَخِي فِي دِيْنِ اللهِ وَكِتَابِهِ، وَهِيَ لِي حَلَالٌ). [خ¦5081]
          أجمع العلماءُ على أنَّه يجوز للآباء تزويج الصِّغار مِنَ بناتهم، وإن كُنَّ في المهد، إلَّا أنَّه لا يجوزُ لأزواجهنَّ البناء بهنَّ(1) إلَّا إذا صلحن للوطْءِ واحتملن الرِّجال، وأحوالهنَّ تختلفُ في ذلك على(2) قدر خَلقهنَّ وطاقتهنَّ في ذلك(3)، وكانت عائشةُ حين تزوَّج بها النَّبِيَّ صلعم بنت ستِّ سنين، وبنى بها بنت تسعٍ، وقد ذكره البخاريُّ بعد هذا في نكاح(4) الرَّجل ولده الصِّغار.
          قال ابنُ المُنْذِرِ: وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ نهيه ◙ عن إنكاح البكر حتَّى تُستَأَذنَ أنَّها البالغ الَّتي لها إذنٌ، إذ قد(5) أجازت السُّنَّة أنْ يعقِدَ الأبُ النِّكاحَ على الصَّغيرة الَّتي لا إذن لها.
          واختلف العلماء في تزويج الأولياء غير الآباء اليتيمة الصَّغيرة، فقال ابنُ أبي ليلى ومالكٌ والَّليْثُ والثَّوْرِيُّ والشَّافعيُّ وابنُ المَاجِشُونِ وأحمدُ وأبو ثَوْرٍ: ليس لغير الأب أن يزوِّج اليتيمة الصَّغيرة، فإنْ فعلَ فالنِّكاح باطلٌ، وحكَى ابنُ المُنْذِرِ عن مالكٍ أنَّه قالَ: يزوِّجُ الوصيُّ(6) الصَّغيرة دون الأولياء إذا كان وصيًّا(7) لها، والجدُّ(8) عند الشَّافعيِّ عند عدم الأب كالأب.
          وقالت(9) طائفةٌ: إذا زوَّج الصَّغيرة غير الأب مِنَ الأولياء، فلها الخيار إذا بلغت، رُوِيَ هذا عن عَطَاءٍ والحَسَنِ وطَاوُسٍ، وهو قول الأوزاعيِّ وأبي حنيفةَ ومُحَمَّدٍ، إلَّا أنَّهما جعلا الجدَّ كالأب لا خيار في تزويجه، وقال أبو يُوسُفَ: لا خيار لها في جميع الأولياء، وقال أحمدُ: لا أرى للوليِّ ولا للقاضي أنْ يزوِّج اليتيمة حتَّى تبلغ تسعَ سنين، فإذا بلغتها ورضيت فلا خيار لها.
          وحجَّة مَنْ جعلَ لها الخيار إذا بلغت أنَّ النَّبيَّ صلعم لمَّا أمر باستئمار اليتيمة، ولا تستأمر إلَّا مَنْ لها ميزةٌ(10) ومعرفةٌ كان لها الخيار والاستئمار إذا بلغت.
          وحجَّة القول الأوَّل قول النَّبيِّ ◙: ((تُسْتَأْمَرُ اليَتِيْمَةُ فِي نَفْسِهَا))، ولا يصحُّ استئمارها إلَّا ببلوغها، ولا يجوز أن يكون العقدُ موقوفًا على استئمارها بدليل امتناع الجميع مِنْ دخول الخيار في عقد النِّكاح، ووقوفها إلى مدَّةٍ فيها الخيار.
          وفرَّق مالكٌ بين اليتيمة واليتيم، فأجاز للوصيِّ تزويج اليتيم قبل البلوغ مِنْ قبل / أنَّ اليتيم لمَّا كان قادرًا على رفع العقد الَّذي يوقعه الوليُّ إنْ كرهه بعدَ بلوغه جازَ ذلك لقدرته على الخروج منه، وليس كذلك اليتيمة؛ لأنَّها لا تقدر إذا بلغت على رفع العقد لأنَّ الطَّلاق ليس بيد النِّساء، فافترقا لهذه العلَّة، ولأنَّ(11) السُّنَّة وردت في منع العقد على اليتيمة حتَّى تُسْتَأمر، ولا يصحُّ استئمارها إلَّا بعد البلوغ، هذا قول مالكٍ.
          قال المُهَلَّبُ: وفي حديث عائشةَ مِنَ الفقه جواز خطبة الرَّجل لنفسه إلى وليِّ المخطوبة إذا علم أنَّه لا يردُّه(12) لتأكُّد ما بينهما، ويحتمل قول أبي بَكْرٍ للنَّبِيِّ صلعم: (إنَّما أَنَا أَخُوكَ) أن يعتقد أنَّه لا يحلُّ له أنْ يتَزوَّجَ ابنته للمؤاخاة والخلَّة الَّتي كانت بينهما، فأعلمه النَّبِيُّ صلعم أنَّ أخوَّة الإسلامِ ليست كأخوَّة النَّسب والولادة، فقال: (إِنَّها لِي حَلَالٌ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ ╡)، كما قال إبراهيمُ ◙ للَّذي أرادَ أنْ يأخذَ منه زوجته: هي أختي، يعني في الإيمان؛ لأنَّه لم يكن أحدٌ مؤمنًا غيرهما يومئذٍ(13).


[1] في (ز): ((لهنَّ)).
[2] في (ص): ((في)).
[3] قوله: ((في ذلك)) ليس في (ز).
[4] في المطبوع: ((في باب نكاح))، وفي (ز): ((في باب إنكاح)).
[5] في (ز): ((إذن وقد)).
[6] في (ز): ((الولي)).
[7] في (ز): ((وصي)).
[8] في (ز): ((وصي أب والجدِّ)).
[9] في المطبوع: ((قالت)).
[10] في (ز): ((ميز)) والمثبت مِنَ المطبوع.
[11] في (ص): ((لأنَّ)).
[12] في (ص): ((يردَّ)).
[13] في (ص): ((مؤمن غيرهما)).