شرح الجامع الصحيح لابن بطال

بابُ بيع المدبر

          ░9▒ بَابُ بَيْعِ المُدَبَّرِ
          فيهِ جَابِرٌ قَالَ(1): (أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلعم بِهِ فَبَاعَهُ. قَالَ جَابِرٌ: فَمَاتَ الغُلاَمُ عَامَ أَوَّلَ(2)).. [خ¦2534]
          اختلف العلماءُ في بيعِ المدَبَّر، فقالت طائفةٌ: يجوز بيعه ويرجع فيه(3) صاحبه متى شاء، هذا قول مُجَاهِدٍ وطَاوُسٍ، وبه قال الشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ، واحتجُّوا بهذا الحديث، قالوا: وهو مذهبُ عائشةَ، ورُوِيَ أنَّها(4) باعت مدَبَّرةً لها سحرتها.
          وقالت طائفةٌ: لا يجوز بيع المدَبَّر، رُوِيَ ذلك عن زَيْدِ بنِ ثابتٍ وابنِ عُمَرَ، وهو قول الشَّعْبِيِّ وسَعِيْدِ بنِ المُسَيَّبِ وابنِ أبي ليلى والنَّخَعِيِّ، وبه قال مالكٌ والثَّوْرِيُّ واللَّيْثُ والكوفيُّون والأوزاعيُّ(5) قالوا: لا يُباع المدَبَّر في دينٍ ولا غيره، في الحياة ولا بعد الموت، والحجَّة لهم قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالعُقُودِ}[المائدة:1]، والتَّدبير عقد طاعةٍ يلزم(6) الوفاء به، فلا سبيل إلى حلِّه والرُّجوع فيه؛ لأنَّه عقدُ حرِّيةٍ بصفةٍ(7) آتيةٍ لا محالة، قالوا: ولا حجَّة في حديث جابرٍ لِمَنْ أجازَ بيعَ المدبَّر؛ لأنَّ في الحديث أنَّ سيِّدَه كان عليه دينٌ فباعه رسولُ الله صلعم بثمانِ مائة درهمٍ وأعطاه(8)، وقال له: (اقضِ دَيْنَكَ)، فثبت بهذا أنَّ بيعه إنَّما كان مِنْ أجلِ الدَّينِ الَّذي عليه، فأمَّا إذا لم يكن عليه دينٌ قبل تدبيره فلا سبيل إلى بيعه.
          وأيضًا: فإنَّ سيِّدَه كانَ سفيهًا، ولذلك باعه النَّبيُّ صلعم وبيعُ المدَبَّر عند مَنْ أجازه لا يفتقر صاحبه فيه إلى بيع الإمام، وهذا الحديث عند العلماء أصلٌ في أنَّ أفعالَ السَّفيه مردودةٌ، فلا حُجَّةَ لهم فيه.
          فإنْ قيلَ: إنَّ التَّدبيرَ وصيَّةٌ يجوزُ الرُّجوع فيه، قيل: ليس كونه وصيَّةً يجوز الرُّجوع فيهِ؛ لأنَّ العتقَ النَّيل(9) في المرض(10) لا يجوز الرُّجوع فيه، فإنْ(11) كانَ يخرجُ مِنَ الثُّلث، فكذلك المدَبَّر.
          وجمهورُ العلماءِ مُتَّفقون أنَّ ولدَ المدَبَّرَة الَّذين تلدهم بعد التَّدبير بمنزلتها يُعْتَقونَ بموتِ سيِّدها، فإذا كانَ التَّدبيرُ يسري إلى الولد، فلأن يلزمَ في(12) الأُمِّ أَوْلَى، قال الطَّبَرِيُّ: وفيهِ أنَّ للإمامِ القيِّم بأمور المسلمين أنْ يحملَهم في أموالهم على ما فيه صلاحُهم، ويردُّ مِنْ أفعالِهم ما فيهِ مضرَّةٌ لهم(13).


[1] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[2] قوله: ((قَالَ جَابِرٌ: فَمَاتَ الْغُلاَمُ عَامَ أَوَّلَ)) ليس في (ز).
[3] في (ز): ((به)).
[4] في (ز): ((روي عنها أنَّها)).
[5] زاد في (ص): ((وابن أبي ليلى)).
[6] زاد في (ز): ((الإنسان)).
[7] في المطبوع: ((بصيغة)).
[8] في المطبوع: ((بثمانمائة وأعطاه)).
[9] في (ز): ((البذل)).
[10] في المطبوع: ((لأنَّ العتق في المرض)).
[11] في (ز): ((وإنَّ)).
[12] في (ز): ((فلأنَّ يسري في)).
[13] في (ز): ((مضرَّتهم)).