شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب أم الولد

          [░8▒ بَابُ مَا جَاءَ فِي(1) أُمِّ الوَلَدِ
          وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا).
          فيهِ عَائِشَةُ(2): (كَانَ عُتْبَةُ بنُ أبي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ(3) أَنْ يَقْبِضَ إِلَيْهِ ابنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ(4)، إِنَّهُ ابني، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ(5) صلعم زَمَنَ الفَتْحِ، أَخَذَ سَعْدٌ ابنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى الَّنِبِّي صلعم، وَأَقْبَلَ مَعَهُ بِعَبْدِ بنِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا ابنُ أَخِي عَهِدَ إليَّ أَنَّهُ ابنُهُ، فَقَالَ عَبْدُ بنُ زَمْعَةَ(6): هَذَا أَخِي ابنُ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِه، فَنَظَرَ النَّبِيُّ(7) صلعم إِلَى ابنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بنَ زَمْعَةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ، فقَالَ النَّبِيُّ(8) صلعم: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ، لمَّا(9) رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، وَكَانَتْ سَوْدَةُ زَوْجَ النَّبِيُّ صلعم). [خ¦2533]
          أشكلَ معنى قصَّةِ عبدِ بنِ زَمْعَةَ(10) على العلماء، وتأوَّلوا فيها ضروبًا مِنَ التَّأويلِ لخروجها عنِ الأصولِ المجمع عليها، فَمِنْ ذلك أنَّ الأُمَّةَ متَّفقةٌ أنَّه لا يدَّعي أحدٌ عن أحدٍ إلَّا بتوكيلٍ مِنَ المُدَّعى له، ولم يذكر في هذا الحديث توكيل عُتْبَةَ لأخيه سَعْدٍ على ما ادَّعاه عنه، ومنها ادِّعاء عبدِ بنِ زَمْعَةَ على أبيه ولدًا بقوله: (أَخِي وَابنُ وَلِيْدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ)، ولم يأتِ ببيِّنة تشهد بإقرار أبيه، ولا يجوز أنْ يقبلَ دعواه على أبيه ولا(11) يستلحق غير الأب لقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}[الأنعام:164].
          وقال الطَّحَاوِيُّ: ذهبَ قومٌ إلى أنَّ الأَمَةَ إذا وَطِئَها مولاها فقد لزمه كلُّ ولدٍ تجيء به بعد ذلك، ادَّعاه أو لم يدَّعه، هذا قول مالكٍ والشَّافعيِّ، واحتجُّوا بهذا الحديثِ؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صلعم قالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بنُ زَمْعَةَ، ثُمَّ قَالَ: الولَدُ لِلفِرَاشِ وَلِلعاهِرِ الحَجْرُ، فَأَلْحقَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم بِزَمْعَةَ لَا لِدَعْوَةِ ابنِهِ)؛ لأنَّ دعوةَ الابن للنَّسب لغيره مِنْ أبيهِ غير مقبولةٍ، ولكنْ لأنَّ أمَّهُ كانت فراشًا لِزَمْعَةَ بِوطئهِ إيَّاها.
          واحتجُّوا في ذلك بما رواه مالكٌ عن نافعٍ عن صَفَيَّةَ بنتِ أبي عُبَيْدٍ: أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّاب قال: ما بالُ رجالٍ يطئون ولائدهم ثُمَّ يدعونهنَّ يخرجْنَ، لا تأتيني وليدةٌ يقرُّ سيِّدها أنْ قَدْ ألمَّ بها إلَّا ألحقت به ولدَها، فأرسلُوهُنَّ بعد أو أمسكوهُنَّ.
          وفي حديثٍ آخرَ: ما بالُ رجالٍ يطئون ولائدهم، ثُمَّ يعزلونَهُنَّ، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما جاءت به هذه الأَمَةُ مِنْ وَلَدٍ، فلا يلزم مولاها إلَّا أن يُقِرَّ به، فإنْ ماتَ قبل أنْ يُقِرَّ به لم يلزمه. وهو قول الكوفيِّين، واحتجُّوا على ذلك: (بِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم إِنَّما َقالَ لِعَبْدِ بنِ زَمْعَةَ: هُو لَكَ يَا عَبْدَ بنَ زَمْعَةَ، وَلَمْ يَقُلْ: هُوَ أَخُوْكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: هُوَ لَكَ، أَي هُوَ مَمْلُوكٌ لَكَ بَحَقِّ مَا لَكَ عَلَيْهِ مِنَ اليَدِ، وَلَمْ يَحْكُمْ فِي نَسَبِهِ بِشَيْءٍ، وَالدَّلِيْلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ سَوْدَةَ بِالاحْتِجَابِ مِنْهُ، فَلَو جَعَلَهُ ◙(12) ابنَ زَمْعَةَ لِمَا حَجَبَ مِنْهُ بِنْتَ زَمْعَةَ؛ لِأَنَّهُ ◙ لَمْ يَأْمُرْ(13) بِقَطْعِ الأَرْحَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْمُرُ بِصِلَتِهَا وَمِنْ صِلَتِهَا التَّزَاوُرُ، وَكَيْفَ يَجوُز أَنْ يَأْمُرَهَا أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْ أَخِيْهَا؟ وَهُوَ يَأْمُرُ عَائِشَةَ(14) أَنْ]
(15) [تَأَذْنَ لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَم يَكُنْ حَكَمَ فِيْهِ بِشَيْءٍ غَيْرِ اليَدِ(16) جَعَلَهُ بِهَا لِعَبِدٍ وَلِسَائِرِ وَرَثَةِ زَمْعَةَ دُوْنَ سَعْدٍ).
          واحتجُّوا أيضًا بما رواه شُعْبَةُ عن عُمَارَةَ بنِ أبي حَفْصَةَ عن عِكْرِمَةَ قال: كان ابنُ عبَّاسٍ يأتي جاريةً له فحملت، فقال: ليس مِنِّي، إِنِّي أتيتها إتيانًا لا أُرِيدُ به الولدَ]
(17).
          وروى الثَّوْرِيُّ عن أبي الزِّنَادِ عن خَارِجَةَ بنِ زَيْدٍ أنَّ أباه كان يعزل عن جاريةٍ فارسيَّةٍ فأتتْ بِحَمْلٍ، فأنكره وقال: إِنِّي لم أكْن أُرِيدُ ولدك، وإنَّما استطبتُ نفسك، فجلدها وأعتقها، وقول ابنِ عَبَّاسٍ وزَيْدٍ خلاف ما رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ في ذلك أهل المقالة الأولى.
          واختلفوا في معنى قوله ◙: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بنَ زَمْعَةَ)، فقالت طائفةٌ: إنَّما قال: هو لك، أي هو(18) أخوك كما ادَّعيت قضاءً منه في ذلك بعلمه؛ لأنَّ زَمْعَةَ بنَ قَيْسٍ كانَ صهرَه ◙ وسَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ كانت زوجته، فيمكن أنْ يكونَ علم أنَّ تلك الأَمَةَ كانَ يمسُّها زَمْعَةُ، فألحق ولدها به لما علمه مِنْ فراشه لا(19) أنَّه قضى بذلك لاستلحاقِ عَبْدِ بنِ زَمْعَةَ له(20).
          وقال الطَّحَاوِيُّ في قوله: (هُوَ لَكَ)، أي هو لك بيدك عليه لا أنَّك تملكه، ولكن تمنع منه كلَّ مَنْ سِواك، كما قال في اللُّقطة: هي لك بيدك عليها، تدفع غيرك عنها حتَّى يجيء صاحبها ليس على أنَّها ملكٌ لك، ولَمَّا كانَ عبدُ بنُ زَمْعَةَ له شريكٌ(21) فيما ادَّعاه وهي أخته سَوْدَةُ، ولم يعلم منها تصديقٌ له، ألزمَ رسول الله صلعم عبدَ بنَ زَمْعَةَ ما أقرَّ به على نفسه، ولم يجعل ذلك حُجَّةً على أخته، إذ لم تصدِّقه، ولم يجعله أخاها وأمَرَها بالحجاب منه.
          قال(22) الطَّبَرِيُّ: (هُوَ لَكَ مُلْكٌ لَا أنَّهُ قَضَى لَهُ بِنَسَبِهِ)، قال ابنُ القَصَّارِ: فعنه جوابان: أحدهما: أنَّه كان يدَّعي عبدُ بنُ زَمْعَةَ أنَّه حرٌّ وأنَّه أخوه وُلِدَ على فراش أبيه، فكيف يقضي له بالملك؟ ولو كان مملوكًا لعتق بهذا القول.
          والجواب الثَّاني: أنَّه لو قضى له بالملك لم يقل: الولد للفراش؛ لأنَّ(23) المملوك لا يلحق بالفراش، ولكان يقول: هو ملكٌ لك.
          وقال المُزَنِيُّ في تأويل(24) هذا الحديث: يحتمل أنْ يكونَ النَّبِيُّ صلعم أجاب فيه على المسألة فأعلمهم بالحكم أنَّ هذا(25) يكون إذا ادَّعى صاحب فراشٍ وصاحب زنا، لا أنَّه قَبِلَ قول سَعْدٍ على أخيه عُتْبَةَ(26)، ولا على زَمْعَةَ قول ابنه عَبْدِ بنِ زَمْعَةَ أنَّه أخوه؛ لأنَّ(27) كلَّ واحدٍ منهما أخبر عن غيره، وقد أجمع المسلمون أنَّه لا يقبل إقرار أحدٍ على غيره، فحكم بذلك ليعرِّفهم(28) الحكم في مثله إذا نزل، وقد حكى الله تعالى في(29) مثل ذلك في قصَّة داود إذ دخلوا عليه ففزع(30): {قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ}[ص:22]، ولم يكونا خصمين، ولا كان لواحدٍ منهما تسعٌ وتسعون نعجةً، ولكنَّهم كلَّموه ليعرف ما أرادوا، فيحتمل(31) أن يكونَ ◙ حكمٌ في هذه القصَّة بنحو ذلك، ويحتمل أن تكون سَوْدَةُ جهلت ما علم أخوها عبدُ بنُ زَمْعَةَ فسكتت، فلَمَّا لم يصحَّ أنَّه أخٌ لعدم البيِّنة بذلك والإقرار(32) مِمَّنْ يلزم إقراره، وزاده بعدًا شبهه بعُتْبَةَ، أمرها بالاحتجاب منه، فكان جوابه ◙ على السُّؤال لا على تحقيق(33) زنا عُتْبَةَ بقول أخيه، ولا بالولد أنَّه(34) لِزَمْعَةَ بقول ابنه، بل قال: (الوَلَدُ لِلفِرَاشِ) على قولك يا عبدُ بنِ زَمْعَةَ لا على ما قال سَعْدٌ، ثمَّ أخبر بالَّذي يكون إذا ثبت مثل هذا.
          وقال الكوفيُّون: قوله: (اِحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ) دليلٌ على أنَّه جعلَ(35) للزِّنا حُكمًا، فحرَّم(36) رؤية ذلك المستلحق لأخته سَوْدَةَ، وقال لها: (احْتَجِبِي مِنْهُ) فمنعها مِنْ أخيها في الحكم؛ لأنَّه ليس بأخيها في غير الحكم لأنَّه مِنْ زنا في الباطن إذا(37) كان شبيهًا بعُتْبَةَ فجعلوه كأنَّه أجنبيٌّ لا يراها بحكم الزِّنا، وجعلوه أخاها بالفراش، /
          [وزعموا أنَّ ما حرَّمه الحلال فالزِّنا أشدُّ تحريمًا له.
          وقال الشَّافعيُّ: رؤية ابنِ زَمْعَةَ لسَوْدَةَ مُبَاحٌ في الحكم، ولكنَّه كرهه للشبه(38) وأمرها بالتَّنزُّه عنه اختيارًا، وقال بعض أصحابه: إنَّه يجوز للرَّجلِ أنْ يمنعَ زوجتَه مِنْ رؤية أخيها، وذهبوا إلى أنَّه أخوها على كلِّ حالٍ؛ (لأنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلعم قَضَى بِالَولَدِ لِلْفِرَاشِ وَأَلْحَقَ اَبنَ أَمَةِ زَمْعَةَ بِفِرَاشِ زَمْعَةَ) قَالُوا: وَمَا حَكَمِ بهِ هُو(39) الحَقُّ، وَفَي قَوْلِهِ ◙: (الولدُ لِلْفِرَاشِ) مِنَ الفِقْهِ إِلْحَاقُ الوَلَدِ بِصَاحِبِ الفِرَاشِ فِي الحُرَّةِ والأَمَةِ. وَقَوْلُهُ: (وَلِلْعَاهِرِ الحَجْرُ)، أي لا شيء للزَّاني في الولدِ إذا ادَّعاه صاحبُ الفراشِ، وهذه كلمةٌ تقولها العرب]
(40).


[1] قوله: ((ماجاء في)) ليس في المطبوع.
[2] في المطبوع: ((قال)).
[3] زاد في المطبوع: ((بن أبي وقَّاص)).
[4] زاد في المطبوع: ((قال عتبة)).
[5] في المطبوع: ((رسول اللهِ)).
[6] زاد في المطبوع: ((يا رسولَ الله)).
[7] في المطبوع: ((هَذَا أَخِي ابْنُ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ وُلِدَ على فِرَاشِ أبي، فَنَظَرَ رسول الله)).
[8] في المطبوع: ((قالَ رسولُ الله)).
[9] في المطبوع: ((ياسودةَ بنت زمعة مِمَّا)).
[10] في المطبوع: ((قصَّة عتبة)).
[11] في المطبوع: ((لأنَّه)).
[12] قوله: ((◙)) ليس في المطبوع.
[13] في المطبوع: ((لا يأمر)).
[14] في المطبوع: ((يأذن لعائشة)).
[15] ما بين معقوفتين ليس في (ص) وهو قدر ورقتين مِنَ المخطوطِ وقع النَّقص بعد الورقة رقم [خ¦120] بقدر ورقتين.
[16] زاد في المطبوع: ((الَّتي)).
[17] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[18] قوله: ((هو)) ليس في (ص).
[19] في (ز): ((مِنْ فراش زمعة لا)).
[20] قوله: ((لز)) ليس في (ز).
[21] في (ز): ((ولما كان لعبد بن زمعة شريك)).
[22] في (ز): ((وقال)).
[23] في المطبوع: ((لأنَّه)).
[24] زاد في (ز): ((قوله)).
[25] في (ز): ((الحكم أنَّ هكذا)).
[26] في (ز): ((لا أنَّه قبل على عتبة قول أخيه سعد)).
[27] في المطبوع: ((لأنَّه)).
[28] زاد في (ز): ((كيف)).
[29] قوله: ((في)) ليس في (ز).
[30] زاد في (ز): ((منهم)).
[31] في (ز): ((فتحامل)).
[32] في (ز): ((أو الإقرار)).
[33] في المطبوع: ((تحقيقه)).
[34] في (ز): ((لأنَّه)).
[35] في (ص): ((دليل أنْ جعل)).
[36] زاد في (ز): ((به)).
[37] في (ز): ((إذ)).
[38] في المطبوع: ((للشُّبهة)).
[39] في المطبوع: ((فهو)).
[40] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).