شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الخطإ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه ولا عتاقة

          ░6▒ بَابُ الخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ في العَتَاقَةِ وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ وَلَا عَتَاقَةَ إِلَّا لِوَجْهِ اللهِ ╡
          وقَالَ(1) النَّبِيُّ صلعم: (لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)، وَلَا نِيَّةَ للْمُخْطِئِ والنَّاسِي(2).
          فيهِ(3): أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: النَّبِيُّ(4) صلعم: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ). [خ¦2528]
          وفيهِ عُمَرُ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) الحديثَ. [خ¦2529]
          الخطأ والنِّسيان إنِّما يكونُ في الحنث في الأيمان بعتقٍ كانت اليمين أو بطلاقٍ(5) أو غيره، وقد اختلف العلماء في النَّاسي ليمينه(6)، هل يلزمه حنثٌ أم لا؟ فقالت طائفةٌ: لا يلزم النَّاسي حنثٌ، وهو قول عَطَاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ، وهو أحد قولي الشَّافعيِّ، وبه قال إِسْحَاقُ، وإليه ذهب البخاريُّ في هذا الباب.
          وقال الشَّعْبِيُّ وطَاوُسٌ: مَنْ أخطأ في الطَّلاق فله نيَّته. وقال أحمدُ بنُ حنبلٍ: يحنث في الطَّلاق خاصَّةً، والحجَّة لقول عَطَاءٍ: قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}[الأحزاب:5]، وظاهر(7) أحاديث هذا الباب.
          وذهب مالكٌ والكوفيُّون إلى أنَّه يحنث في الخطأ والنِّسيان، وهو الأشهرُ عنِ الشَّافعيِّ، ورُوِيَ ذلك عنْ أصحابِ ابنِ مَسْعُودٍ، وقد تقدَّم في كتاب الأيمان والنُّذور اختلاف أهل العلم فيمن حنث ناسيًا في يمينه، فأغنى عن إعادته [خ¦6689].
          ومِنَ الخطأ في العتق والطَّلاق ما اختلف فيه ابنُ القَاسِمِ وأَشْهَبُ أنَّه إذا دعا عبدًا فقال(8) له: ناصحٌ، فأجابه مرزوقٌ، فقال له: أنت حرٌّ، وهو يظنُّ أنَّه ناصحٌ، وشهد عليه بذلك، فقال ابنُ القَاسِمِ: يُعتقان جميعًا، يعتق مرزوقٌ لمواجهته بالعتق، ويعتق ناصحٌ بما نواه، وأمَّا فيما بينه وبين الله، فلا يعتق إلَّا ناصحٌ. قال ابنُ القَاسِمِ: وإنْ(9) لم يكنْ عليهِ بيِّنةٌ لم يعتق إلَّا الَّذي نوى.
          وقال أَشْهَبُ: يعتقُ مرزوقٌ فيما بينه وبين الله تعالى، وفيما بينه وبين العباد، ولا يعتق ناصحٌ؛ لأنَّه دعاه ليعتقه فأعتق غيره وهو يظنُّه هو، فرزق هذا(10) وحرم هذا.
          وروى مُطَرِّفٌ وابنُ المَاجِشُونِ فِيْمَنْ أرادَ أنْ يُطَلِّقَ امرأته واحدةً فأخطأ لسانه فطلَّقها البتَّة، طلقت عليه البتَّة، ولا ينفعُهُ ما أراد، ولا نيَّة له في ذلك، وهو قول مالكٍ قال: يُؤخَذ النَّاس بلفظهم في الطَّلاق، ولا تنفعهم نيَّاتهم.
          وقال أَصْبَغُ عنِ ابنِ القَاسِمِ: وعلى هذا القول يكون تأويل قوله ◙: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)، على الخصوصِ كَأَنَّهُ قالَ: الأعمالُ بالنِّيَّات إلَّا في العتق والطَّلاق، فإنَّ الأعمال فيها(11) بالأقوال والنِّيَّاتِ، فَمَنِ ادَّعى الخطأَ بلسانه فيهما، فإثم ذلك ساقطٌ عنه، وهو مأخوذٌ بما نطقَ به لسانُهُ حياطةً للفروج وتحصينًا لها مِنَ الإقدامِ على وَطْئِها بالشَّكِّ، واحتياطًا مِنَ الرُّجوعِ في عتق الرِّقابِ المنجية مِنَ النَّارِ الَّتي أمر النَّبيُّ صلعم معتق شِقْصٍ(12) منها بتمام عتق جميع الرَّقبة وتخليصها مِنَ الرِّقِّ، وروى ابنُ نافعٍ(13) وزيادُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ عن مالكٍ: أنَّه تنفعه نيَّته، ولا تطلَّق إلَّا واحدةً، وقد رُوِيَ عن الحَسَنِ البَصْرِيِّ في رجلٍ كان يكلِّمُ امرأته في شيءٍ فغَلِطَ، فقالَ: أنتِ طالقٌ، قال: ليس عليه شيءٌ بينه(14) وبين ربِّه، والمعمول عليه مِنْ مذهب مالكٍ المشهور عند أصحابه القول الأوَّل.


[1] في المطبوع: ((قال)).
[2] في المطبوع: ((للنَّاسي والمخطئ)).
[3] في المطبوع: ((وفيه)).
[4] في المطبوع: ((قال: قال النَّبيُّ)).
[5] في المطبوع: ((طلاق)).
[6] في المطبوع: ((في يمينه)).
[7] في المطبوع: ((وهو ظاهرٌ)).
[8] في المطبوع: ((يقال)).
[9] في المطبوع: ((فإنَّ)).
[10] قوله: ((هذا)) ليس في (ز).
[11] في المطبوع: ((فيهما)).
[12] في المطبوع: ((للمعتق شقصًا)).
[13] في المطبوع: ((وروى نافع)).
[14] زاد في المطبوع: ((فيما)).