شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب أكل المضطر

          ░38▒ باب إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ
          لِقَولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} إِلَى قولِهِ: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة:171-172]وَقَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ}[المائدة:3]، وَقَوْلِهِ تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}[الأنعام:118]، وَقَوْلِهِ {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية[الأنعام:145]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُهْرَاقًا. إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}[الأنعام:145].
          اختلف العلماء في أكل المضطر الميتة، فقال مالكٌ: أحسن ما سمعت في المضطر يأكل من الميتة حتَّى يشبع، ويتزوَّد منها، فإذا وجد عنها غنًى طرحها. وهو قول ابن شهابٍ وربيعة.
          وقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ: لا يأكل منها إلَّا مقدار ما يمسك الرَّمق والنَّفس. وحجَّتهم أنَّ المضطرَّ إنَّما أبيح له أكل الميتة إذا خاف الموت على نفسه، فإذا أكل منها ما يزيل الخوف فقد زالت الضَّرورة وارتفعت الإباحة فلا يحلُّ أكلها.
          وحجَّة مالكٍ أنَّ المضطرَّ قد أباح الله له الميتة، فقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة:173]يعني: إذا أكل منها، ولم يفرِّق بين القليل والكثير؛ فإذا حلَّت له الميتة أكل منها ما شاء.
          واختلف أهل التَّأويل في معنى قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}[الأنعام:145]فقال ابن عبَّاسٍ: غير باغٍ: في الميتة، ولا عادٍ: في الأكل. وقال الحسن: غير باغٍ فيها ولا متعدٍّ بأكلها، وهو غنيٌّ عنها.
          وقال مجاهدٌ: غير باغٍ: على الأئمَّة، ولا عادٍ: قاطع طريق سبيلٍ، فإن خرج على الأئمَّة أو قطع الطَّريق فلا رخصة له في الأكل.
          فإن احتجَّ الكوفيُّون والشَّافعيُّ بتفسير ابن عبَّاسٍ، وأنَّ معنى قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}[النحل:115]يعني غير متعدٍّ في الأكل، وإذا شبع وتزوَّد فهو متعدٍّ فيه.
          قيل: قد فسَّر مجاهدٌ وغيره أنَّ معنى الآية: غير متعدٍّ على النَّاس وقاطعٍ سبيلهم، وإنَّما معنى قول ابن عبَّاسٍ أن الباغي والمتعدِّي لا يأكلها؛ لأنَّه غنيٌّ عنها غير مضطرٍّ إليها، فإذا اضطرَّ إليها لم يكن متعدِّيًا في شبعه؛ لأنَّه لا يقدر على سفره وتصرُّفه إلَّا بشبع نفسه، والتَّزوُّد أولى في حفظ النَّفس وحياطتها؛ لأنَّه لا يأمن ألَّا يجد ما يمسك رمقه من طعامٍ ولا ميتةٍ، ولعلَّه أن يطول سفره فيهلك نفسه، والله تعالى قد حرَّم على الإنسان أن يتعرَّض لإهلاك نفسه، وسيأتي اختلاف / العلماء في شرب الخمر والبول، عند الضَّرورة في كتاب الأشربة، إن شاء الله. [خ¦5614]