شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما ذبح على النصب والأصنام

          ░16▒ باب: مَا يُذبَحُ عَلَى النُّصِبِ وَالأَصْنَامِ
          فيه: ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبيِّ صلعم: (أَنَّهُ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ _وَذَلكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ على النَّبيِّ صلعم الْوَحْيُ_ فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلعم سُفْرَةً فِيهَا لَحْمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ على أَنْصَابِكُمْ، وَلا نأكُلُ إِلَّا ما ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ). [خ¦5499]
          قال المؤلِّف: ظاهر هذا الحديث يدلُّ أنَّ زيدًا قال للنَّبيِّ صلعم: (إنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ) يوهم أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يأكل ذلك، والنَّبيُّ صلعم كان أولى باجتناب ذلك من زيدٍ، وقد جاء هذا الحديث مبيَّنًا في مناقب زيد بن عَمْرٍو في كتاب فضائل الصَّحابة، بيَّنه فضيل بن سليمان(1) عن موسى بن عقبة أنَّ النَّبيَ صلعم لقي زيد بن عَمْرِو بأسفل بلدح _قبل أن ينزل الوحي على الرَّسول صلعم_ فقُدِّمت إلى النَّبيِّ صلعم سفرةٌ، فأبى أن يأكل منها، ثمَّ قال زيدٌ: إنِّي لست آكل ممَّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلَّا ممَّا ذُكِر اسم الله عليه، فالسُّفرة إنَّما قدَّمتها قريشٌ للنََبيِّ صلعم فأبى أن يأكل منها، فقدَّمها النَّبيُّ صلعم إلى زيدٍ، فأبى أن يأكل منها، ثمَّ قال لقريشٍ الذين قدَّموها إلى النَّبيِ صلعم: أنا لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ على أَنْصَابِكُمْ. ولم يكن زيدٌ في الجاهليَّة بأفضل من النَّبيِّ صلعم، فحين امتنع زيدٌ فالنَّبيُّ صلعم الذي كان حباه الله لوحيه واختاره ليكون خاتم النَّبيِّين وسيِّد المرسلين صلعم أولى بالامتناع منها في الجاهليَّة أيضًا.
          قال الطَّبريُّ: أنصاب الحرم: أعلامه، وهو جمع نَصْبٍ، وقد يجمع أيضًا: نُصُبًا. كما قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ على النُّصُبِ}[المائدة:3].
          وكانت هذه النُّصب ثلاثمائةً وستِّين حجرًا مجموعة عند الكعبة، كانوا يذبحون عندها لآلهتهم ولم تكن أصنامًا، وذلك أنَّ الأصنام كانت تماثيل وصورًا مصوَّرةً، وأمَّا النُّصب فكانت حجارةً مجموعةً. وقال ابن زيدٍ: ما ذبح على النُّصب، وما أُهِلَّ به لغير الله واحدٌ، ومعنى أُهِلَّ به لغير الله: ذكر عليه غير اسم الله من أسماء الأوثان التي كانوا يعبدونها، وكذلك المسيح وكلُّ اسمٍ سوى الله. قال الطَّبريُّ: ومعنى ما أُهِلَّ به لغير الله: ما ذبح للآلهة والأوثان، فسُمِّي عليه غير اسم الله.
          واختلف الفقهاء في ذلك: فكره عمر وابن عمر وعائشة ما أهلَّ به لغير الله. وعن النَّخَعِيِّ والحسن مثله، وهو قول الثَّوريِّ. وكره مالكٌ ذبائح النَصارى لكنائسهم وأعيادهم، وقال: لا يؤكل ما سُمِّي عليه المسيح. وقال إسماعيل بن إسحاق: كرهه مالكٌ من غير تحريمٍ. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل ما سمِّي عليه المسيح. وقال الشَّافعيُّ: لا يحلُّ ما ذُبِح لغير الله ولا ما ذُبِح للأنصاب.
          ورخَّص في ذلك آخرون، / روي ذلك عن عُبَاْدَة بن الصَّامت وأبي الدَّرداء وأبي أمامة، وقال عطاءٌ والشَّعبيُّ: قد أحلَّ الله ما أُهِلَّ به لغير الله؛ لأنَّه قد علم أنَّهم سيقولون هذا القول وأحلَّ ذبائحهم، وإليه ذهب اللَّيث وفقهاء أهل الشَّام: مكحولٌ وسعيد بن عبد العزيز والأوزاعيُّ، قالوا: سواء سمَّى المسيح على ذبيحته، أو ذبح لعيدٍ أو كنيسةٍ، كلُّ ذلك حلالٌ؛ لأنَّه كتابيٌّ ذبح لدينه، وكانت هذه ذبائحهم قبل نزول القرآن، وأحلَّها الله في كتابه.
          قال المؤلِّف: وإذا ثبت أنَّ ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم، وما أهلُّوا به لغير الله من طعامهم المباح لنا، فلا حجَّة لمن حرَّمه ومنعه.


[1] في (ص): ((سليم)) والمثبت من المطبوع.