شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب

          ░34▒ باب: إِذَا وَقَعَتِ الفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الجَامِدِ أَوِ الذَّائِبِ
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ، عن مَيْمُونَةَ: (أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ في سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبيُّ صلعم عَنْهَا، فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ). [خ¦5538]
          قِيلَ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ إِلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مِرَارًا.
          وسئل ابن شهابٍ عَنِ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ، وَهُوَ جَامِدٌ أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ، الفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ، ثُمَّ أُكِلَ. عَنْ حَدِيثِ(1) عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ.
          توقَّف البخاريُّ في إسناد معمرٍ، عن الزُّهريِ، عن سعيدٍ، عن أبي هريرة؛ لأنَّه انفرد به معمرٌ، عن الزُّهريِّ، وأمَّا حديث الزُّهريِّ، عن عبيد الله، عن ابن عبَّاسٍ فرواه جماعة أصحاب ابن شهابٍ عنه بهذا الإسناد، وقد صحَّح الذُّهليُّ الإسنادين جميعًا عن ابن عبَّاسٍ، وإنَّما لم يُدخِل البخاريُّ في الحديث قوله صلعم: ((وإن كان مائعًا فلا تقربوه)) لأنَّه من رواية معمرٍ، عن الزُّهريِّ، واستراب انفراد معمرٍ.
          وفي قوله صلعم: (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَها) دليلٌ أنَّ السَّمن كان جامدًا، لأنَّه لا يتمكَّن طرح ما حولها في الذَّائب المائع؛ لأنَّ في الحركة يسرح بعضه بعضًا.
          والعلماء مجمعون أنَّ هذا حكم السَّمن الجامد تقع فيه الميتة أنَّها تُلقَى وما حولها ويؤكل سائره؛ لأنَّ رسول الله صلعم حكم للسَّمن الملاصق للفأرة بحكم الفأرة، لتحريم الله الميتة، فأمر بإلقاء ما مسَّها منه. وأمَّا السَّمن المائع والزَّيت والخلُّ والمريُّ والعسلُ وسائر المائعات تقع فيها الميتة فلا خلاف أيضًا بين أئمَّة الفتوى أنَّه لا يؤكل منها شيءٌ.
          واختلفوا في بيعه والانتفاع به، فقالت طائفةٌ: لا يباع ولا ينتفع بشيءٍ منه، كما لا يؤكل. هذا قول الحسن بن صالحٍ وأحمد بن حنبلٍ، واحتجُّوا بما رواه معمرٌ، عن الزُّهريِّ، عن سعيدٍ، عن أبي هريرة أنَّ النَّبي صلعم قال: ((فإن كان مائعًا فلا تقربوه)) وبقوله: ((لعن الله اليهود؛ حُرِّمت عليهم الشُّحوم فباعوها، وأكلوا ثمنها)).
          وقال آخرون: يجوز الاستصباح به، والانتفاع في الصَّابون وغيره، ولا يجوز بيعه وأكله. هذا قول مالكٍ والثَوريِ والشَافعيِّ، واحتجُّوا برواية عبد الواحد بن زيادٍ، عن معمرٍ، عن الزُّهريِّ، عن سعيدٍ، عن أبي هريرة أنَّ النَّبي صلعم قال: ((وإن كان مائعًا فاستصبحوا به))، قالوا: وقد روي عن عليِّ بن أبي طالبٍ وابن عمر وعمران بن حصينٍ أنَّهم أجازوا الاستصباح به، وأمر ابن عمر أن تدهن به الأدم.
          وذكر الطَّبريُّ عن ابن عبَاسٍ مثله، وذكر ابن المنذر عن ابن مسعودٍ وأبي سعيدٍ الخدريِّ وعطاءٍ مثله، واحتجُّوا في منع بيعه بقوله صلعم في الخمر: ((إنَّ الذي حرَّم شربها حرَّم بيعها))، وبحديث النَّهي عن بيع الشُّحوم، وأيضًا فإنَّه قد يُنتَفع بما لا يجوز بيعه؛ ألا ترى أنَّا ننتفع بأمِّ الولد ولا يجوز بيعها، ويُنتَفع بكلب الصَّيد ويُمنَع من بيعه، ونطفئ الحريق بالماء النَّجس والخمر ولا يجوز بيعه، وهذا كلُّه انتفاعٌ، ذكره ابن القصَّار.
          وقال آخرون: يُنتَفع بالزَّيت الذي تقع فيه الميتة بالبيع وبكلِّ شيءٍ ما عدا الأكل. قالوا: ويجوز أن يبيعه ويبيِّن؛ لأنَّ كلَّ ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، والابتياع من الانتفاع، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه واللَّيث. وروي عن أبي موسى أنَّه قال: بيعوه وبيِّنوا لمن تبيعونه منه، ولا تبيعونه(2) من مسلمٍ. وروى ابن وهبٍ عن القاسم وسالمٍ أنَّهما أجازا بيعه وأكل ثمنه بعد البيان.
          قال الكوفيُّون: ويحتمل ما قال معمرٌ / من قوله صلعم: ((و إن كان مائعًا فلا تقربوه أو فلا تقربوه)) للأكل، وليس في تحريم الشُّحوم على اليهود تحريم ثمنها حجَّةٌ لمن منع بيع الزَّيت تقع فيه الميتة؛ لأنَّ الحديث خرج على تحريم شحوم الميتة وهي نجسة الذَّات، ولا يجوز بيعها ولا أكلها ولا الانتفاع بها، والزَّيت والسَّمن الذي تقع فيه الميتة إنَّما تنجس بالجوار، ولا ينجس بالذَّات، كالثَّوب الذي يصيبه الدَّم، ولذلك رأى بعض العلماء غسله، ويجوز عندهم الاستصباح به، ولا يجوز بشحوم الميتة.
          قال ابن القصَّار: وقال أهل الظَّاهر: لا يجوز بيع السَّمن ولا الانتفاع به إذا وقعت فيه الفأرة، ويجوز بيع الزَّيت والخلِّ والمريِّ وجميع المائعات تقع فيه الفأرة؛ لأنَّ النَّهي إنَّما ورد في السَّمن لا في الزَّيت وغيره. وهذ إبطالٌ للمعقول؛ لأنَّ الرَّسول صلعم نصَّ على السَّمن وهو ممَّا يؤكل ويشرب، وهو من المائعات الطَّاهرات، كان فيه تنبيهٌ على ما هو مثله؛ لأنَّه يثقل عليه صلعم أن يقول: السَّمن والزَّيت والشَّيرَج والخلُّ والمريُّ والدُّهن والمرق والعصير وكلُّ مائعٍ؛ لأنَّه أوتي جميع الكَلِم، وهذا كما قال تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ}[الإسراء:23]فنبَّه بذلك على أنَّ كلَّ ما كان في معناه من الانتهار والسَّبِّ فما فوقه مثله في التَّحريم. وكذلك كلُّ مائعٍ وقعت فيه نجاسةٌ هو مثل السَّمن.
          قال المؤلِّف: وممَّا يبطل به مذهب أهل الظَّاهر أن يقال لهم: ما تقولون في السَّمن تموت فيه وزغةٌ أو حيَّةٌ أو سائر الحيوان؟ فإن طردوا أصلهم وقالوا: لا ينجس السَّمن بموت سائر الحيوان فيه(3) غير الفأرة التي ورد النَّصُّ فيها، خرجوا من قول الأمَّة ومن المعقول، وإن سوَّوا بين جميع ما يموت في السَّمن من سائر الحيوان، لزمهم ترك مذهبهم.


[1] في (ص): ((عن حريث بن)) والمثبت من المطبوع.
[2] كذا في (ص) والجادة: ((ولا تبيعوه)).
[3] قوله: ((فيه)) غير واضحة في (ص) وبيض لها في المطبوع والمثبت من التوضيح.