شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد

          ░18▒ باب: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ مِنَ القَصَبِ والمَرْوَةِ وَالحَدِيدِ.
          فيه: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: (أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ شَاةً مِنْ غَنَمِهَا مَوْتَهَا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا، فَقَالَ لأهْلِهِ: لا تَأْكُلُوا حَتَّى آتِيَ النَّبيَّ صلعم فَأَسْأَلَهُ، فَأَتَى إِلَيْهِ، فَأَمَرَ صلعم بِأَكْلِهَا). [خ¦5502]
          وفيه: رَافعٌ أَنَّهُ قَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ لَنَا مُدًى، فَقَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، أَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ، وَأَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ). [خ¦5503]
          وترجم لحديث رافع باب: لَا يُذَكَّى بِالسِّنِ وَالعَظْمِ وَالظُّفُرِ.
          (المَرْوَةِ): الحجارة البيض، وقيل: إنَّها الحجارة التي يقدح منها النَّار.
          واختلف العلماء فيما يجوز أن يذبح به، فقالت طائفةٌ: كلُّ ما ذكِّي به من شيءٍ أنَّهر الدَّم وفرى الأوداج ولم يَثرُد(1) جازت به الذَّكاة إلا السِّنَّ والظُّفر لنهي النَّبيِّ صلعم عنهما، وإن كانا منزوعين، هذا قول النَّخعِيِّ واللَّيث والشَّافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ، واحتجُّوا بحديث نافعٍ، وقال مالكٌ وأبو حنيفة: كلُّ ما فرى الأوداج وأنَّهر الدَّم تجوز الذَّكاة به، وتجوز بالسِّنِّ والظُّفر المنزوعين، فأمَّا إن كانا غير منزوعين فإنَّه لا يجوز ذلك؛ لأنَّه يصير خنقًا، وفي ذلك ورد النَّهي، وكذلك قال ابن عبَّاسٍ: ذلك الخنق؛ لأنَّ ما ذبح به إنَّما يذبح بكفٍّ لا بغيرها، فهو مخنوقٌ، وكذلك ما نهى عنه من السِنِّ إنَّما هو المُركَّبة؛ لأنَّ ذلك يكون عضًّا، فأمَّا إن كانا منزوعين وفريا الأوداج فجائزٌ الذَّكاة بهما؛ لأنَّ في حكم الحجر كلَّ ما قطع ولم يثرد، وإذا جازت التَّذكية بغير الحديد، جازت بكلِّ شيءٍ في معناه.
          وذكر الطَّحاويُّ: أنَّ طائفةً ذهبت إلى أنَّه تجوز الذَّكاة بالسِّنِّ والظُّفر المنزوعين وغير المنزوعين، واحتجُّوا بما روى سفيان عن(2) سماك بن حرب، عن مُرَيِّ بن قَطَرِيٍّ، عن رجلٍ من بني ثعلب(3)، عن عديِّ بن حاتمٍ قلت: يا رسول الله، أرسل كلبي فيأخذ الصَّيد، فلا يكون معي ما يذكِّيه به إلَّا المروة والعصا. قال: ((أنهِر الدَّم بما شئت، واذكر اسم الله)).
          وحديث رافعٍ أصحُّ من هذا الحديث / فالمصير إليه أولى، ولو صحَّ حديث عديٍّ لكان معناه: أنهِر الدَّم بما شئت إلَّا بالسِّنِّ والظُّفر، وزاد الطَّبريُّ: وما كان نظيرًا لهما، وهو القرن. قالا: وهذه زيادةٌ وتفسيرٌ لحديث عديٍّ يجب الأخذ بها.
          وفي حديث عديٍّ جواز ذبيحة المرأة، وهو قول جمهور الفقهاء، وذلك إذا أحسنت الذَّبح، وكذلك الصَّبيُّ عندهم إذا أحسن الذَّبح، واحتجُّوا بحديث كعبٍ. واحتجَ الفقهاء بحديث كعبٍ على جواز كلِّ ما ذُبِح بغير إذن مالكه، وردُّوا بهذا الحديث على من أبى من أكل ذبيحة السَّارق والغاصب(4)، وهو قول يروى عن عِكْرِمَة وطاوسٍ، وبه قال أهل الظَّاهر وإسحاق، وهو شذوذٌ لا يلتفت إليه، والنَّاس على خلافه.
          وقال ابن المنذر: وليس بين ذبيحة السَّارق وذبيحة المحرم فرقٌ.
          قال المُهَلَّب: وفيه تصديق الرَّاعي والأجير فيما اؤتمن عليه حتَّى يظهر عليه دليل الخيانة والكذب.


[1] في (ص) والمطبوع: ((يشرد)) وفي التوضيح: ((يتردَّ)) والمثبت من السنن الكبرى للبيهقي، وكذا في الموضع بعده، ومعناه: لم يهشم.
[2] قوله: ((عن)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع.
[3] في (ص): ((تعد)) والمثبت من المطبوع.
[4] في (ص): ((السارق والسارق)) والمثبت من التوضيح.