شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب جلود الميتة

          ░30▒ باب: جُلُودِ المَيْتَةِ
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا، قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا). [خ¦5531]
          لم يذكر صالح بن كَيْسان في حديث ابن شهابٍ الدِّباغ، وتابعه مالكٌ ومعمرٌ ويونس. وقد ذكر ابن عيينة والأوزاعيُّ والزُّبيديُّ وعُقَيلٌ عن ابن شهابٍ الدِّباغ في هذا الحديث.
          وذُكِر الدِّباغ في حديث ابن عبَّاس من رواية ابن وَعْلَة وعطاءٍ عن ابن عبَّاسٍ ثابتٌ محفوظٌ، فمعنى قوله: (هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا) يعني: بعد الدِّباغ؛ لأنَّه معلومٌ أنَّ تحريم الميتة قد جمع إهابها وعصبها ولحمها، فإنَّما أباح الانتفاع بجلدها بعد دباغه بدليل حديث ابن وَعْلَة عن ابن عبَاسٍ: ((إذا دبغ الإهاب فقد طهر)) وبدليل حديث عائشة: ((أنَّ النَّبي صلعم أمر أن يستمتع بجلد الميتة إذا دبغ)) وذكره مالكٌ في «الموطأ»، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمَّة الفتوى. وذكر ابن القصَّار أنَّ هذا آخر قول مالكٍ. وهو قول أبي حنيفة والشَّافعيُّ.
          وفي المسألة قولٌ ثانٍ، روي عن ابن شهابٍ أنَّه أجاز الانتفاع بجلود الميتة قبل الدِّباغ مع كونها نجسةً.
          وفيها قولٌ ثالثٌ ذهب إليه أحمد بن حنبلٍ _وهو في الشُّذوذ قريبٌ من الذي قبله_ ذهب إلى تحريم الجلد وتحريم الانتفاع به قبل الدِّباغ وبعده، واحتجَّ بحديث شعبة، عن الحكم، عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عُكَيمٍ: قرئ علينا كتاب رسول الله صلعم: ((لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ)).
          ولمالكٍ قولٌ آخر فيه شبهٌ من قول أحمد وليس به، وهو أنَّ جلود الميتة لا تطهر بالدِّباغ، ولكنَّه أجاز استعمالها في الأشياء اليابسة وفي الماء خاصَّةً من بين سائر المائعات فخالفه في استعمالها.
          وفيها قولٌ آخر قاله الأوزاعيُّ وأبو ثورٍ قالا: يطهر جلد ما يؤكل لحمه بالدِّباغ دون ما لا يؤكل. ذكر ذلك ابن القصَّار.
          وحجَّة القول الأوَّل الذي عليه الجمهور أنَّه معلومٌ أنَّ قوله صلعم: ((إذا دبغ الإهاب)) هو ما لم يكن طاهرًا من الأهب كجلود الميتات وما لم تعمل فيه الذَّكاة من الدَوابِّ والسِّباع؛ لأنَّ الطَّاهر لا يحتاج إلى الدِّباغ للتَّطهير، ومحالٌ أن يقال في الجلد الطَّاهر: إذا دبغ فقد طهر.
          وفي قوله صلعم: ((إذا دبغ الإهاب فقد طهر)) نصٌّ ودليلٌ، فالنَّصُّ منه طهارة الإهاب بالدِّباغ، والدَّليل منه أنَّ كلَّ إهابٍ لم يدبغ فليس بطاهرٍ، وإذا لم يكن طاهرًا فهو نجسٌ، والنَّجس محرَّمٌ، وإذا كان ذلك كذلك كان هذا الحديث مبيِّنًا لحديث ابن عبَّاسٍ، وبطل بنصِّه قول من قال: إنَّ جلد الميتة لا ينتفع به بعد الدِّباغ، وهو قول أحمد وما ضارعه، وبطل بالدَّليل منه قول من قال: إنَّ جلد الميتة إن لم يدبغ ينتفع به، وهو قول الزُّهريِّ، قال أبو عبد الله المروزيُّ: وما علمت أحدًا قال هذا القول بعد الزُّهريِّ.
          وقال الطَّحاويُّ: لم نجد عن أحدٍ من الفقهاء جواز جلد الميتة قبل الدِّباغ إلَّا عن اللَّيث رواه عنه ابن وهبٍ. قال ابن القصَّار: وإنَّما اعتمد الزُّهريُ في ذلك على روايته في حديث ابن عبَّاسٍ: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((ما على أهلها لو أخذوا إهابها فانتفعوا به)) ولم يذكر ((فدبغوه)) قال: فدلَّ أنَّه يجوز الانتفاع به قبل الدِّباغ، فيقال: قد روى عنه ابن عيينة والأوزاعيُّ وغيرهم الحديث، /
          وقالوا فيه: فدبغوه وانتفعوا به، فإذا كان الزُّهريُّ الرَّاوي للحديثين أخذنا بالزَّائد منهما، ومن أثبت شيئًا حجَّةٌ على من قصر عنه ولم يحفظه.
          وأيضًا فإنَّ الدِّباغ قد جاء من طرقٍ متواترةٍ عن ابن عبَاسٍ، عن النَّبيِّ صلعم ((أنَّه مرَّ بشاةٍ مطروحةٍ من الصَّدقة، فقال: أفلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به)). وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: قال النَّبيُّ صلعم: ((دباغ جلد الميتة ذكاته)).
          قال الطَّحاويُّ: وأمَّا حديث ابن عُكَيمٍ الذي أخذ به أحمد بن حنبلٍ فيحتمل ألَّا يكون مخالفًا لأحاديث الدِّباغ، ويكون معناه: لا تنتفعوا به ما دام ميتةً غير مدبوغٍ؛ فإنَّه قد كان صلعم سئل عن الانتفاع بشحم الميتة، فأجاب فيها مثل هذا. وروى ابن وهبٍ، عن زَمْعَة بن صالحٍ، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ: أنَّ ناسًا أتوا النَّبيَّ صلعم فقالوا: يا رسول الله، إنَّ سفينةً لنا انكسرت، وإنَّا وجدنا ناقةً سمينةً ميتةً، فأردنا أن ندهن بها. فقال رسول الله: ((لا تنتفعوا بشيءٍ من الميتة)) فأخبر جابرٌ بالسُّؤال الذي كان قول النَّبيِّ صلعم: ((لا تنتفعوا من الميتة)) جوابًا له أنَّ ذلك كان على النَّهي عن الانتفاع بشحومها، فأمَّا ما دبغ منها وعاد إلى معنى الإهاب فإنَّه مُطَهَّرٌ بذلك على ما تواترت به الآثار، وعلى هذا لا تتضادُّ الآثار.
          قال المُهَلَّب: وحجَّة مالكٍ في كراهية الصَّلاة عليها وبيعها وتجويز الانتفاع بها في بعض الأشياء أنَّ النَّبيَّ صلعم أهدى حلَّةً من حريرٍ لعمر، وقال: ((لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها)) فأباح له صلعم التَّصرُّف في الحلَّة في بعض الوجوه، فكذلك جلد الميتة يجوز الانتفاع به في بعض الوجوه دون بعضٍ.
          قال ابن القصَّار: وأمَّا قول الأوزاعيِّ وأبي ثورٍ أنَّه يطهر جلد ما يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل، واحتجُّوا بما رواه أبو المليح الهذليُّ عن أبيه ((أنَّ النَّبي صلعم نهى عن افتراش جلود السِّباع)) ولم يفرِّق بين أن تكون مدبوغةً أو غير مدبوغةٍ، وقال صلعم: ((دباغ الأديم ذكاته)) فأقام الدِّباغ مقام الذَّكاة، وأنَّه يعمل عملها، فلمَّا لم تعمل الذَّكاة فيما لا يؤكل لحمه لم يعمل الدِّباغ فيه.
          والحجَّة عليهما قوله صلعم: ((أيُّما إهابٍ دبغ فقد طهر)) وإنَّما نهى عن افتراش جلود السِّباع التي لم تدبغ. وأمَّا قولهم إنَّ الذَّكاة لا تعمل في السِّباع. فإنَّها تعمل فيها، ويستغنى فيها عن الدِّباغ، إلَّا الخنزير، وإنَّما لم يعمل فيه لأنَّه محرَّم العين، وحكي عن أبي يوسف وأهل الظَّاهر أنَّ جلد الخنزير يطهِّره الدِّباغ، وهو قول سَحنون ومحمَّد بن عبد الحكم، واحتجُّوا بعموم قوله صلعم: ((أيُّما إهابٍ دبغ فقد طهر)) والصَّواب قول الجمهور، والفرق بين الخنزير وغيره أنَّ النَّص ورد بتحريمه، والإجماع حاصلٌ على المنع من اقتنائه فلم تعمل الذَّكاة في لحمه ولا جلده، فكذلك الدِّباغ لا يطهِّر جلده. وأجاز مالكٌ والكوفيُّون الخرازة بشعره، ومنع ذلك الشَّافعيُّ لتحريم عينه.