شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة

          ░25▒ باب: مَا يُكْرَهُ مِنَ المُثْلَةِ وَالمَصْبُورَةِ وَالمُجَثَّمَةِ
          فيه: أَنَسٌ: (أنَّهُ َرَأَى صِبْيانًا قد نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبيُّ صلعم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ). [خ¦5513]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنَّهُ دَخَلَ على يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى بها ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلامِ مَعَهُ، فَقَالَ: ازْجُرُوا غُلامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ: (فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ، أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ، وَإِنَّ النَّبيَّ صلعم لَعَنَ مِنْ فَعَلَ هَذَا). [خ¦5514]
          وَقَالَ مَرَّةً: (لَعَنَ النَّبيُّ صلعم مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ. وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ، مثله). [خ¦5515م]
          وقال ابْنُ عُمَرَ أيْضًا: إنَّ النَّبيَّ صلعم: (نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ). [خ¦5516]
          قال أبو عبيدٍ: قال أبو زيدٍ وابن عَمْرو وغيرهما في نهيه صلعم أن تصبر البهائم: هو الطَّائر وغيره من ذوات الرُّوح، يُصبَر حيًّا ثمَّ يرمى حتَّى يُقتَل، وأصل الصَّبر: الحبس، وكلُّ من حبس شيئًا فقد / صبره. ومنه قيل للرَّجل يُقدَّم فيُضرَب عنقه: قُتِل صبرًا. يعني: أمسك للموت. قال أبو عبيدٍ: فأمَّا المُجَثَّمة فهي المصبورة أيضًا، ولكنَّها لا تكون إلَّا في الطَّير والأرانب وأشباه ذلك ممَّا يَجثُم بالأرض.
          قال ابن المنذر: وقال أحمد وإسحاق: لا تؤكل المصبورة والمجثَّمة. قال غيره: ولا أعلم أحدًا من العلماء أجاز أكل المصبورة وكلُّهم يحرِّمها؛ لأنَّه لا ذكاة في المقدور عليه إلَّا في الحلق واللَّبَّة.
          قال المُهَلَّب: وهذا إنَّما هو نهيٌ عن العبث في الحيوان وتعذيبه من غير مشروعٍ. وأمَّا تجثيمها للنَّحر وما شاكله فلا بأس به، وإنَّما يكره العبث لحديث شَدَّاد بن أوسٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((إنَّ الله كتب الإحسان على كلِ شيءٍ؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبح، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليُرِح ذبيحته)) وكره أبو هريرة أن تحدَّ الشَّفرة والشَّاة تنظر إليها، وروي أنَّ النَّبيَّ صلعم رأى رجلًا أضجع شاةً، فوضع رجله على عنقها، وهو يحدُّ شفرته فقال له صلعم: ((ويلك، أردت أن تميتها موتاتٍ؟ هلَّا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها)) وكان عُمَر بن الخطَّاب ينهى أن تذبح الشَّاة عند الشَّاة، وكرهه ربيعة أيضًا، ورخَّص فيه مالكٌ.
          وقال الطَبريُّ: في(1) نهيه صلعم عن صبر البهائم الإبانة عن تحريم قتل ما كان حلالًا أكله من الحيوان إذا كان إلى تذكيته سبيلٌ، وذلك أنَّ رامي الدَّجاجة بالنَّبل ومتَّخذها غرضًا قد تخطئ رميته موضع الذَّكاة فيقتلها، فيحرم أكلها، وقاتله كذلك غير ذابحه ولا ناحره، وذلك حرامٌ عند جميع الأمَّة، ومتَّخذه غرضًا مُقدِمٌ على معصية ربِّه من وجوهٍ: منها: تعذيبه ما قد نُهِي عن تعذيبه، وتمثيله ما قد نُهِي عن التَّمثيل به، وإماتته بما قد يحظر عليه إصابته به، وإفساده من ماله ما كان له إلى إصلاحه والانتفاع به سبيلٌ بالتَّذكية، وذلك من تضييع المال المنهيِّ عنه.
          وقال ابن عمر: من اتَّخذ شيئًا ممَّن فيه الرُّوح غرضًا لم يخرج من الدُّنيا حتَّى تصيبه قارعةٌ. وقال عبد الله بن عُمَر وقد أبصر قومًا يفعلون ذلك بطائرٍ: أما إنَّهم سيقادون لها.
          وذكر الطَّبريُّ عن قَتادة، وعن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاسٍ: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم نهى عن المجثَّمة. وقال: المجثَّمة التي التصقت بالأرض، وحبست على القتل والرَّمي، فإذا جَثَمت من غير أن يفعل ذلك بها فهي جاثمةٌ. وفي كتاب «الأفعال»: يقال: جَثَم على ركبتيه جُثومًا. ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[هود:67].
          قال الطَّبريُّ: ويحتمل قوله صلعم عن المجثَّمة معنين:
          أحدهما: أن يكون نهيًا عن رميها بعد تجثيمها فيكون المعنى فيها النَّهي عن تعذيبها بالرَّمي والضَّرب. والثَّاني: أن يكون معنى النَّهي عنها عن أكل لحمها إذا هي ماتت بالضَّرب والرَّمي؛ لأنَّها إذا ماتت كذلك بعد أن تجثَّم، فهي ميتةٌ؛ لأنَّها لا تجثَّم إلَّا بعد أن تصاد، ولو كانت هي الجاثمة من قبل نفسها، ولم يقدر على صيدها إلَّا بالرَّمي فرماها ببعض ما يخرجها ليحبسها، فماتت من رميه كانت حلالًا؛ لأنَّها حينئذٍ جاثمةٌ لا مجثَّمةٌ، وهي صيدٌ صِيد بما يُصاد به الوحش. ونهيه صلعم عن المجثَّمة نظير نهيه عن المصبورة، غير أنَّ التَّجثيم عند العرب هو في الممتنعات من الوحش والطَّير الذي ينبذ بالأرض ويجثم بها، وأنَّ الصَّيد المصبر يكون في ذلك وغيره، فإن وجَّه موجِه معنى نهيه صلعم عن المجثَّمة بالمعنى الأوَل كان ذلك نظير نهيه صلعم عن صبر البهائم، وذلك نهيٌ عن تعذيبها، وإن وجَّهه إلى المعنى الثَّاني، وهو النَّهي عن أكل لحمها إذا ماتت من الرَّمي كان ذلك نظير نهيه تعالى عن المنخنقة والموقوذة والمتردِّية، وتحريمه أكلها إذا ماتت من ذلك، وإن جُثِّمت فُرِسَت ولم تمت فذبحها مجثِّمها كان حلالًا أكلها بالتَّذكية. /


[1] قوله: ((في)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع.