شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدًا

          ░15▒ باب: التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا
          قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِيَ فَلا بَأْسَ، قَالَ تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}[الأنعام:121]وَالنَّاسِي لا يُسَمَّى فَاسِقًا، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ}الآية[الأنعام:121].
          فيه: رَافِعٌ: (كُنَّا مَعَ الرَّسول صلعم بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَبْنَا إِبِلا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبيُّ صلعم في أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَدُفِعَ النَّبيُّ صلعم إِلَيْهِمْ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، وَكَانَ في الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللهُ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا، وَقَالَ جَدِّي: إِنَّا لَنَرْجُو _أَوْ نَخَافُ_ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ. قَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ). [خ¦5498]
          قال المؤلِّف: اختلاف العلماء في التَّسمية على الذَّبيحة كاختلافهم على التَّسمية في الصَّيد، وقد تقدَّم اختلاف العلماء في ذلك، والحجَّة لأقوالهم في أوَّل كتاب الصَّيد فأغنى عن إعادته. [خ¦5475]
          وقال أبو الحسن بن القابسيِّ: يمكن أن يكون أمره صلعم بإكفاء القدور من أجل أنَّهم استباحوا من الغنائم كما كانوا يعرفون فيما بعد عن بلاد الإسلام، وموضع الانقطاع عن مواضعهم، فهم مضطرُّون إلى ما وجدوه في بلاد العدوِّ كما جاء في قصَّة خيبر أنَّ قومًا أخذوا جرابًا فيه شحمٌ فما عيب عليهم ولا طولبوا به، وقد مضى من سنن المسلمين في الغنائم وأكلهم منها ما لا خلاف فيه.
          وكانوا في هذه القسمة بذي الحليفة قريبًا من المدينة، ولم يكونوا مضطرِّين إلى أكل الغنيمة، فأراهم النَّبي صلعم أنَّ هذا ليس لهم، فمنعهم ممَّا فعلوه بغير إذنه صلعم، فكان في باب الخوف من الغلول، وقد تقدَّم هذا المعنى في كتاب الجهاد في باب: ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم، [خ¦3075] وذكرت هناك وجهًا آخر.
          قال ابن القابسيِّ: ولو قيل إنَّ معنى ذلك من قِبَل أنَّهم بادروا قبل القسم كان داخلًا في المعنى الذي ذكره، ولو قيل: إنَّما كان ذلك من قِبَل أنَ الغنيمة كانت إبلًا وغنمًا كلُّها لكان داخلًا في المعنى؛ لأنَّ وجهه أنَّهم فعلوا ما ليس لهم.
          وقوله: (ثُمَّ قَسَمَ وعَدَلَ) ولم ينقل أحدٌ أنَّه دخل في ذلك قرعةٌ، وما لم يدخله قرعةٌ لا يضرُّه اختلاف أجناسه في القسمة فساووا فيه وتفاضلوا إذا رضوا بذلك.
          وقوله: (فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ) يقال: نَدَّ نَديدًا ونِدادًا إذا شرد.
          وقوله: (فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ منهم بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللهُ) يعني: أنَّ البعير حبسه الله بذلك السَّهم ومنعه من النَّفار الذي كان به حتَّى أُدرِك فذُكِّي، وليس في الحديث ما يمنع من هذا المعنى / إذ لم يقل فيه: فحبسه الله فمات، لما أنَّه أُدرِك فذُكِّي وذكاته ترفع التَّنازع في أكله وتصير إلى الإجماع في أكله، وهو قولنا فيما غلبنا من المواشي الإنسيَّة أنَّا نحبسها بما استطعنا فما أدركنا منها لم تنفذ مقاتله فذكَّيناه أكلناه، وإذا أنفذنا مقاتله لم نحمله محمل الصَّيد؛ إذ لم يأتنا في ذلك شيءٌ بيِّنٌ نتَّبعه، فنحن في صيد الوحش على ما أذن الله ورسوله وفي ذكاة الإنسيِّ على ما جاءنا به حكم الذَّكاة، وسيأتي اختلاف العلماء في هذه المسألة في بابها، وفي سائر الحديث في الذَّبح بالسِّنِّ والظُّفر في بابه إن شاء الله. [خ¦5509]
          وقوله: (إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ) قال أبو عَمْرٍو الشَّيبانيُّ: قال النُّميريُّ: الآبد: التي تلزم الخلاء فلا تقرب أحدًا، ولا يقربها. وقال أبو عَمْرٍو: قد أبدت النَّاقة تأبُّدًا وأبودًا(1) إذا انفردت وحدها وتفرَّدت، وتأبَّد أي: تفرَّد.
          وقال مرَّةً: هي آبدةٌ إذا ذهبت في المرعى، وليس لها راعٍ فأبعدت شهرًا أو شهرين. وقال أبو عليٍّ في «البارع» في باب وَبَد: قال ابن أبي طُرفَة: المستوبد: المستوحش. يقال: خلوت واستوبدت أي: استوحشت.


[1] في (ص): ((أبودًا)) والمثبت من المطبوع.