شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب المسك

          ░31▒ باب: المِسْكِ
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال صلعم: (مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ في اللهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ). [خ¦5533]
          وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً). [خ¦5534]
          قال المؤلِّف: إنَّما أدخل المسك في هذا الباب ليدلَّ على تحليله إذ أصله التَّحريم؛ لأنَّه دمٌ، فلمَّا تغيَّر / عن الحالة المكروهة عن الدَّم، وهو الزَّهم وبفيح الرَّائحة صار حلالًا بطيب الرَّائحة، وانتقلت حاله وكانت حاله كحال الخمر تتخلَّل(1)، فتحلُّ بعد أن كانت حرامًا بانتقال الحال، وأصل هذا في كتاب الله تعالى في قصَّة موسى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}[طه:20-21]فحكم لها بما انقلبت إليه وأسقط عنها حكم ما انقلبت عنه. قال: وحديث أبي موسى حجَّةٌ في طهارة المسك؛ لأنَّه لا يجوز حمل النَّجاسة، ولا يأمر صلعم بذلك، فدلَّ على طهارته، وجلُّ العلماء على هذا.
          قال ابن المنذر: وممَّن أجاز الانتفاع بالمسك: عليُّ بن أبي طالبٍ وابن عمر وأنس بن مالكٍ وسلمان، ومن التَّابعين: سعيد بن المسيِّب وابن سيرين وجابر بن زيدٍ، ومن الفقهاء: مالكٌ واللَّيث والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق.
          وخالف ذلك آخرون، ذكر ابن أبي شيبة عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه كره المسك، وقال: لا تحنِّطوني به. وكرهه عُمَر بن عبد العزيز وعطاءٌ والحسن ومجاهدٌ والضَّحَّاك. وقال أكثرهم: لا يصلح للحيِّ ولا للميِّت؛ لأنَّه ميتةٌ، وهو عندهم بمنزلة ما قطع من الميتة.
          قال ابن المنذر: ولا يصحُّ ذلك إلَا عن عطاءٍ، وهذا قياس غير صحيحٍ؛ لأنَّ ما قطع من الحيِّ يجرى فيه الدَّم، وهذا ليس سبيل نافجة المسك؛ لأنَّها تسقط عند الاحتكاك لسقوط الشَّعر.
          وقد روى أبو داود قال: حدَّثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدَّثنا المُستَمِرُّ بن الرَّيَّان، عن أبي النَّضْرة، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: قال رسول الله صلعم: ((أطيب طيبكم المسك)) وهذا نصٌّ قاطعٌ للخلاف. قال ابن المنذر: وقد رُوِّينا عن النَّبيِّ صلعم بإسنادٍ جيِّدٍ أنَّه كان له مسكٌ يتطيَّب به.
          وقوله: (يُحْذِيَكَ) يعني: يعطيك. تقول العرب: حَذَوته، وأَحْذَيته: إذا أعطيته. والاسم: الحُذْيا مقصورٌ.


[1] في (ص) والمطبوع: ((تتحلل)) والمثبت هو المناسب للسياق.