شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب لحوم الحمر الإنسية

          ░28▒ باب لُحُومِ الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ
          فِيهِ سَلَمَةُ، عَنِ النَّبيِّ صلعم
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم(1) عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ). [خ¦5521]
          وفيه: عَلِيٌّ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الإنْسِيَّةِ). [خ¦5523]
          وفيه: جَابِرٌ(2): (نَهَى النَّبي صلعم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ في لُحُومِ الْخَيْلِ). [خ¦5524]
          وفيه: الْبَرَاءُ، وَابْنُ أبي أَوْفَى: (نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ). [خ¦5525] [خ¦5526]
          وفيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، قَالَ: (حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلعم لُحُومَ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ). [خ¦5527]
          رواه صالحٌ والزُّبَيْدِيُّ وَعُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
          وَقَالَ مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَالْمَاجِشُونُ وَيُونُسُ وَابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهرِيِّ قَالَ: نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ.
          وفيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا، فَنَادَى في النَّاسِ: إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ، فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ). [خ¦5528]
          وفيه: عَمْرٌو: (قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ يَزْعُمُونَ(3) أَنَّ النَّبيَّ صلعم نَهَى عَنْ لَحْمِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ(4) الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ النِّحرِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ: {قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلى مُحَرَّمًا}الآية[الأنعام:145]). [خ¦5529]
          قال المؤلِّف: فقهاء الأمصار مجمعون على تحريم الحُمُر، وروي خلاف ذلك عن ابن عبَّاسٍ فأباح أكلها، وروي مثله عن عائشة والشَّعبيِّ، وقد روي عنهم خلافه.
          قال الطَّحاويُّ: وقد افترق الذين أباحوا أكل الحمر على مذاهب في معنى نهيه صلعم عن أكلها، فقال قوم: إنَّما نهى رسول الله صلعم عنها إبقاءً على الظَّهر ليس على وجه التَّحريم. ورووا في ذلك حديث يحيى بن سعيدٍ، عن الأعمش قال: حُدِّثت عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى قال: قال ابن عبَّاسٍ: ((ما نهى رسول الله صلعم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهليَّة إلَّا من أجل أنَّها ظهرٌ)) وابن جُريجٍ، عن نافع، عن ابن عمر قال: ((نهى رسول الله صلعم عن أكل الحمار الأهليِّ يوم خيبر، وكانوا قد احتاجوا إليها)).
          قال الطَّحاويُّ: فكان من الحجَّة عليهم أنَّ جابرًا قد أخبر أنَّ النَّبيَّ صلعم أطعمهم يومئذٍ لحوم الخيل، ونهاهم عن لحوم الحمر، فهم كانوا إلى الخيل أحوج منهم إلى الحمر. فدلَّ تركه منعهم أكل لحوم الخيل أنَّهم كانوا في بقيَّةٍ من الظَّهر، ولو كانوا في قلَّةٍ منه حتَّى احتيج لذلك أن يُمنَعوا من أكل لحوم الحمر لكانوا إلى المنع من أكل لحوم الخيل أحوج؛ لأنَّهم يحملون على الخيل كما يحملون على الحمر، ويركبون الخيل بعد ذلك لمعانٍ لا يركبون لها الحمر، فدلَّ أنَّ العلَّة التي ذكروها ليست هي علَّة منعها.
          وقال آخرون: إنَّما مُنِعوا منها لأنَّها كانت تأكل العذرة، ورووا في ذلك حديث شعبة عن(5) الشَّيبانيِّ قال: ذكرت لسعيد بن جبيرٍ حديث ابن أبي أوفى وأمر النَّبيِّ صلعم بإكفاء القدور يوم خيبر، فقال: إنَّما نهى عنها، لأنَّها كانت تأكل العذرة. فكان من الحجَّة عليهم في ذلك أنَّه لو لم يكن جاء في هذا إلَّا الأمر بإكفاء القدور لاحتمل ما قالوا، ولكن قد جاء هذا وجاء النَّهي في ذلك مطلقًا، حدَّثنا عليُّ بن معبدٍ(6) حدثنا شَبَابة بن سوَّارٍ، حدَّثنا أبو زيد عبد الله بن العلاء، حدَّثنا مسلم بن مِشكَمٍ _كاتب أبي الدَّرداء_ قال: سمعت أبا ثعلبة الخُشَنيَّ يقول: أتيت النَّبيَّ صلعم فقلت: يا رسول الله، حدِّثني ما يحلُّ لي ممَّا يحرم عليَّ فقال: ((لا تأكل الحمار الأهليَّ، ولا كلَّ ذي نابٍ من السِّباع)) فكان كلام الرَّسول صلعم في هذا الحديث جوابًا لسؤال أبي ثعلبة إيَّاه عمَّا يحلُّ له ممَّا يحرم عليه، فدلَّ ذلك أنَّ نهيه صلعم عنها لا لعلَّةٍ تكون في بعضها دون بعضٍ من أكل العذرة وشبهها ولكن لها في أنفسها.
          وقال قومٌ: إنَّما نهى عنها رسول الله صلعم؛ لأنَّها كانت نُهبَةً، واحتجُّوا بما روى يحيى بن أبي كثيرٍ عن النَّحَّاز / الحنفيِّ(7)، عن سنان بن سلمة، عن أبيه ((أنَّ النَّبي صلعم مرَّ يوم خيبر بقدورٍ فيها الحمر _حمر النَّاس_ فأمر بها فأكفئت))، فكان من الحجَّة عليهم في ذلك أنَّ قوله: ((حمر النَّاس)) يحتمل أن تكون نهبوها من النَّاس، ويحتمل أن تكون نسبتها إلى النَّاس؛ لأنَّهم يركبونها فيكون وقع النَّهي عنها؛ لأنَّها أهليَّةٌ لا لغير ذلك، وقد بيَّن أنسٌ في حديثه أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لهم: (أَكْفِئُوهَا، لِأَنَّها رِجْسٌ) فدلَّ أنَّ النَّهي وقع عنها لأنَّها رجسٌ لا لأنَّها نهبةٌ.
          وروى سلمة بن الأكوع أنَّ النَّبي صلعم قال لهم: ((أكفئوا القدور واكسروها)). قالوا: يا رسول الله أو نغسلها؟ قال: ((أو ذاك)) فدلَّ ذلك على أنَّ النَّهي كان لنجاسة لحومها، لا لأنَّها نهبةٌ؛ ألا ترى لو أنَّ رجلًا غصب شاةً فذبحها وطبخ لحمها أنَّ قدره التي طبخ فيها لا تنجس وأنَّ حكمها حكم ما طبخ فيه لحمٌ غير مغصوبٍ، فدلَّ أمره بغسلها على نجاسة ما طبخ فيها، وعلى أنَّ الأمر بطرح ما كان فيها لنجاسته، وكذلك من غصب شاةً فذبحها وطبخها أنَّه لا يؤمر بطرح لحمها في قول أحدٍ من النَّاس، فلمَّا انتفى أن يكون نهيه صلعم عن أكل لحوم الحمر بمعنى من هذه المعاني التي ادَّعاها الذين أباحوا لحمها، ثبت أنَّ نهيه كان عنها في أنفسها.
          فإن قيل: فقد رويتم عن ابن عبَّاس ما احتجَّ به من قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}الآية[الأنعام:145].
          قيل له: ما قاله رسول الله صلعم أولى ممَّا قاله ابن عبَّاسٍ، وما قاله رسول الله صلعم هو مستثنًى من الآية، وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما جاء عن رسول الله صلعم مجيئًا متواترًا في الشَّيء المقصود إليه بعينه ممَّا قد أنزل الله في كتابه آيةً مطلقةً على ذلك الجنس، فيكون ما جاء عنه صلعم مستثنًى من تلك الآية غير مخالفٍ لها، حتَّى لا يضادَّ القرآن السُّنَّة، ولا السُّنَّة القرآن.
          قال غيره: وأمَّا حديث أبي ثعلبة فلا يصحُّ فيه تحريم الحمر، إنَّما يصحُّ فيه ما رواه مالكٌ عن ابن شهابٍ ((أنَ النَّبيَّ صلعم نهى عن أكل كلِّ ذي نابٍ من السِّباع))، ومن ذكر فيه بهذا الإسناد الحمر فقد وهم؛ لأنَّ مالكًا ومعمرًا وابن الماجِشون ويونس بن يزيد أثبت في ابن شهابٍ من صالح بن كَيْسان والزُّبَيدِيِّ وعُقَيلٍ.


[1] قوله: ((فيه: ابْن عُمَرَ: نَهَى النَّبي صلعم)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع والصحيح.
[2] في (ص): ((خالد)) والمثبت من المطبوع والصحيح.
[3] في (ص): ((ابن عمرو)) والمثبت من المطبوع.
[4] في (ص): ((قد يكون ذلك)) والمثبت من المطبوع.
[5] في (ص): ((بن)) والمثبت من المطبوع.
[6] في (ص): ((سعيد)) والمثبت من المطبوع.
[7] في (ص): ((يحيى بن أبي كثير البخاري الحنفي)) والمثبت من المطبوع.