عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من لم ير التشهد الأول واجبا لأن النبي قام من الركعتين
  
              

          ░146▒ (ص) بَابُ مَن لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الأَوَّل وَاجِبًا؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم قامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ ولَمْ يَرْجِعْ.
          (ش) أي: هذا باب في بيان حكمِ مَن لم يَرَ التشهُّد الأَوَّل في الجلسة الأولى مِنَ الثُّلاثيَّة والرُّبَاعيَّة، والمراد مِنَ (التشهُّد) تشهُّد الصلاة؛ وهو التحيَّات، سُمِّي تشهُّدًا؛ لأنَّ فيه شهادةَ أن لا إله إلا الله، وأنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، وهو (تفعُّلٌ) مِنَ الشهادة.
          فَإِنْ قُلْتَ: في التحيَّات أشياء غير التشهُّد؛ فما وجهُ التخصيصِ بلفظ (التشهُّد) ؟
          قُلْتُ: لشرفِهِ على غيرِه من حيثُ إنَّهُ كلامٌ به يصير الشخصُ مؤمِنًا، ويُرفع عنه السيف، وينتظم في سلك الموحِّدين الذي به النجاةُ في الدنيا والآخرة.
          والبُخَاريُّ ممَّن يرى عدمَ وجود التشهُّد الأَوَّل، وفي «التوضيح»: أجمع فقهاء الأمصار _أبو حنيفة ومالك والثَّوْريُّ والشَّافِعِيُّ وإسحاق والليث وأبو ثور_ على أنَّ التشهُّد الأَوَّل غير واجب حاشا أحمد، فَإِنَّهُ أوجبه، كذا نقله ابن القصَّار، ونقله ابن التين أيضًا عن الليث وأبي ثور، وفي «شرح الهداية»: قراءة التشهُّد في القعدة الأولى واجبة عند أبي حنيفة، وهو المختار والصحيح، وقيل: سنَّة، وهو الأقيس، لكنَّه خلاف ظاهر الرواية، وفي «المغني»: إن كانت الصلاة مغربًا أو رباعيَّة؛ فهما واجبان فيهما على إحدى الروايتين، وهو مذهب اللَّيث وإسحاق؛ لأنَّه صلعم فعَلَه وداوم عليه، وأمر به في حديث ابن عَبَّاس بقوله: «قولوا: التحيَّات لله...»، وجَبَره بالسَّهو حين نَسيَه، وقال: «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»، وفي «مسلم» عن عائشة ♦: «وكان يقول في كلِّ ركعتين التحيَّة»، وللنَّسائيِّ من حديث ابن مسعود مرفوعًا: «إذا قعدتُم في كلِّ رَكْعَتَين؛ فقولوا: التحيَّات....»؛ الحديث، وحديث المسيء وحديث رفاعة الذي مضى، ورويَ عن عمر ☺ أنَّهُ قال: «مَن لم يتشهَّد؛ فلا صلاةَ له»، وحجَّة الجمهور هو قوله: لأنَّ النَّبِيَّ صلعم قامَ من الركعتين؛ يعني: قام إلى الثالثة وترك التشهُّد، ولم يرجع / إلى التشهُّد، ولو كان واجبًا؛ لوجب عليه التدارك حين علم تركه ما أتى به، بل جبره بسجود السهو، وقال التَّيميُّ: سجوده ناب عن التشهُّد والجلوس، ولو كانا واجبين؛ لم ينُبْ منابهما سجودُ السهو، كما لا ينوب عن الركوع وسائر الأركان.
          واحتجَّ الطَّبَريُّ لوجوبه: بأنَّ الصلاة فُرِضَتْ أوَّلًا ركعتين، وكان التشهُّد فيها واجبًا، فلمَّا زيدت؛ لم تكنِ الزيادة مُزيلةً لذلك الواجب.
          وأُجيب: بأنَّ الزيادة لم تتعيَّن في الأُخرَيَين، بل يحتمل أن يكونا هما الفرض الأَوَّل، والمزيد هما الرَّكعتان الأوليان بتشهُّدهما، ويؤيِّده استمرار السلام بعد التشهُّد الأخير كما كان، وفيه نظرٌ لا يخفى.