عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب جهر الإمام والناس بالتأمين
  
              

          ░111▒ (ص) بابُ جَهْرِ الإمامِ وَالنَّاسِ بِالتَّأمِين.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم جهر الإمام وجهر النَّاس بالتأمين.
          (التَّأمين) على وزن (التَّفعيل)، من أمَّن يُؤمِّن؛ إذا قال: آمين، وهو بالمدِّ والتَّخفيف في جميع الروايات وعند جميع القرَّاء كذلك، وحكى الواحديُّ عن حمزة والكسائيِّ: الإمالةَ فيها، وفيها ثلاث لغات أُخْرى، وهي شاذَّة: الأولى: القصر، حكاه ثعلب وأنكر عليه ابن درستويه، الثانية: القصر مع التشديد، والثالثة: المدُّ مع التشديد، وجماعة مِن أهل اللُّغة قالوا: إنَّهما خطأ، وقال عياض: حُكي عن الحسن المدُّ والتَّشديد، قال: وهي شاذَّة مردودة، ونصَّ ابن السِّكِّيت وغيرُه مِن أهل اللَّغة: على أنَّ التشديد لحنُ العوامِّ، وهو خطأ في المذاهب الأربعة.
          واختلفتِ الشَّافِعِيَّة في بطلان الصلاة بذلك، وفي «التجنيس»: ولو قال: آمِّين؛ بتشديد الميم في صلاته؛ تفسد، وإليه أشار صاحب «الهداية» بقوله: والتَّشديد خطأٌ فاحشٌ، ولكنَّه لم يذكر هنا فساد الصلاة به؛ لأنَّ فيه خلافًا؛ وهو أنَّ الفساد قولُ أبي حنيفة، وعندهما: لا تفسد؛ لأنَّه يوجد في القرآن مثلُه؛ وهو قوله: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}[المائدة:2]، وعلى قولِهما الفتوى.
          وأَمَّا وزن (آمين) ؛ فليس مِن أوزان كلام العرب، وهو مثل: (هابيل) و(قابيل)، وقيل: هو تعريب «هِمين»، وقيل: أصله: يا أَلله؛ استجب دعاءنا، وهو اسمٌ مِن أسماء الله تعالى، إلَّا أنَّهُ أسقط ياء النداء، فأُقِيم المدُّ مُقامَه؛ فلذلك أنكر جماعةٌ القصرَ فيه، وقالوا: المعروف فيه المدُّ، وروى عبد الرَّزَّاق عن أبي هُرَيْرَة بإسناد ضعيف: أنَّهُ اسم مِن أسماء الله، وعن هلال بن يَساف التَّابِعِيِّ مثله، وهو اسمُ فعلٍ؛ مثل: (صه) ؛ بمعنى: / اسكُتْ، ويُوقَف عليه بالسكون، فإن وُصِلَ بغيره؛ حُرِّك؛ لالتقاء الساكنين، ويُفتَح؛ طلبًا للخفَّة؛ لأجل الياء؛ كـ(أيْنَ) و(كيْفَ).
          وأَمَّا معناه؛ فقيل: ليكُن كذلك، وقيل: افعل، وقيل: لا تخيِّب رجاءَنا، وقيل: لا يقدر على هذا غيرُك، وقيل: طابَعُ الله على عباده، يدفع به عنهم الآفات، وقيل: هو كنز مِن كنوز العرش، لا يعلم تأويله إلَّا الله، وقيل: مَن شدَّد ومدَّ؛ فمعناه: قاصدين إليك، ونُقِلَ ذلك عن جعفر الصادق، وقيل: مَن قَصَر وشدَّد؛ فهي كلمة عبرانيَّة أو سُريانيَّة، وعن أبي زهير النميريِّ قال: وقف رسول الله صلعم على رجل ألحَّ في الدعاء، فقال صلعم : «وجب إن ختم»، فقال رجل مِنَ القوم: بأيِّ شيء يختم؟ قال: «بآمين، فَإِنَّهُ إن ختم بآمين؛ فقد وجب»، رواه أبو داود.
          قُلْت: أبو زُهَير صحابيٌّ، وهو بِضَمِّ الزاي وفتح الهاء، وفي «المُجتَبى»: لا خلاف أنَّ «آمين» ليس مِنَ القرآن، حَتَّى قالوا بارتداد مَن قال: إنَّهُ منه، وإنَّه مسنون في حقِّ المنفرد والإمام والمأموم والقارئ خارج الصلاة، واختلف القرَّاء في التَّأمين بعد الفاتحة إذا أراد ضمَّ سورة إليها، والأصحُّ أنَّهُ يأتي بها.
          (ص) وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ دُعَاءٌ، أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَير وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً.
          (ش) مطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إنَّ عطاء قال: «آمين» دعاءٌ، والدُّعاء يشترك فيه الإمام والمأموم، ثُمَّ أكَّد ذلك بما رواه عن ابن الزُّبَير ☻ وعطاء بن أبي رَبَاح، وابن الزُّبَير: هو عبد الله بن الزُّبَير بن العوَّام.
          وهذا تعليقٌ وصله عبد الرَّزَّاق عن ابن جُرَيْج: عن عطاء قلت له: أكان ابن الزُّبَير [يُؤمِّن على إثر أمِّ القرآن؟ قال: نعم؛ ويؤمِّن مَن وراءه حَتَّى إنَّ للمسجد لَلجَّةً، ثُمَّ قال: إِنَّما آمين دعاءٌ، ورواه الشَّافِعِيُّ عن مسلم بن خالد عن ابن جُرَيْج، عن عطاء قال: كنت أسمع الأئِمَّة _ابن الزُّبَير] ومَن بعده_ يقولون: آمين، ويقول مَن خلفه: آمين، حَتَّى إنَّ لِلمسجد لَلجَّةً، وفي «المُصنَّف»: حَدَّثَنَا ابن عيينة قال: لعلَّه عن ابن جُرَيْج عن عطاء عن ابن الزُّبَير قال: كان للمسجد رجَّةٌ _أو قال: لجَّةٌ_ إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:7].
          وروى البَيْهَقيُّ عن خالد بن أبي أيُّوب عن عطاء قال: أدركتُ مئتينِ مِن أصحاب رسول الله صلعم في هذا المسجد؛ إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}؛ سمعت لهم رجَّةً بـ«آمين».
          قوله: (حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً) كلمة (إنَّ) بالكسر، و(لِلمسجد) ؛ أي: ولأهل المسجد، (لَلجَّةً) اللَّام الأولى للتأكيد، والثانية مِن نفس الكلمة، وبتشديد الجيم، وهي الصَّوت المرتفع، وكذلك اللَّجلجةُ، ويروى: <لَجَلَبَةً> بفتح الجيم واللام والباء المُوَحَّدة، وهي الأصوات المختلطة.
          وفي رواية البَيْهَقيِّ: (لرجَّة) بالرَّاء موضع اللَّام.
          قوله: (آمِينَ دُعَاءٌ) مبتدأٌ وخبرٌ مقول القول.
          قوله: (أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) ابتداءُ كلامٍ مِن إخبار عطاءٍ.
          (ص) وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُنَادِي الإِمَامَ: لَا تَفُتْنِي بِآمِينَ.
          (ش) مطابقته للترجمة مِن حيث إنَّهُ يقتضي أن يقول الإمام والمأموم كلاهما: آمين، ولا يختصُّ به أحدهما.
          قوله: (لَا تَفُتْنِي) بفتح التاء المُثَنَّاة مِن فوقُ التي هي تاء الخطاب، وضمِّ الفاء، وسكون التاء، منَ الفوات، ومعناه: لا تدعني أن يفوت منِّي القول بـ(آمين)، ويروى: <لا تسبِقْني> من السَّبق.
          وهكذا وصل ابن أبي شَيْبَةَ هذا التعليق فقال: حَدَّثَنَا وكيع: حَدَّثَنَا كثير بن زيد عن الوليد بن رَبَاح عن أبي هُرَيْرَة: أنَّهُ كان يُؤذِّن بالبحرين، فقال للإمام: لا تسبقني بـ«آمين»، وحدَّثنا أبو أسامة عن هشام، عن مُحَمَّد، عنه مثله، انتهى، وكان الإمام بالبحرين العلاء بن الحضرميِّ.
          وروى صاحب «المُحلَّى» عن عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَة: أنَّهُ كان مُؤذِّنًا للعلاء بن الحضرميِّ بالبحرين، فاشترط عليه أن لا يسبقه بآمين.
          وروى البَيْهَقيُّ مِن حديث أبي رافع: أنَّ أبا هُرَيْرَة كان يُؤذِّن لمروان بن الحكم، فاشترط أن لَا يسبقه بـ{الضَّالِّينَ} حَتَّى يعلم أنَّهُ قد دخل الصَّفَّ، فكان إذا قال مروان: / {وَلَا الضَّالِّينَ}؛ قال أبو هُرَيْرَة: آمين يمدُّ بها صوته، وقال: إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمينَ أهل السماء؛ غُفِر لهم، ورُوِي عن بلال نحو قول أبي هُرَيْرَة أخرجه أبو داود: حَدَّثَنَا إسحاق بن إبراهيم بن راهُوْيَه: أخبرنا وكيع عن سفيان، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن بلال أنَّهُ قال: يا رسول الله؛ لا تسبقني بآمين.
          وقد أَوَّل العلماء قوله: (لا تسبقني بآمين) على وجهين؛ الأَوَّل: أنَّ بلالًا كان يقرأ (الفاتحة) في السَّكتة الأولى مِن سكتَتي الإمام، فربَّما يبقى عليه شيء منها ورسول الله صلعم قد فرغ منها، فاستمهله بلالٌ في التأمين بقدر ما يتمُّ فيه قراءة بقيَّة السورة حَتَّى ينالَ بركة موافقته في التَّأمين، الثاني: أنَّ بلالًا كان يُقيم في الموضع الذي يُؤذِّن فيه مِن وراء الصفوف، فإذا قال: قد قامت الصَّلاة؛ كبَّر النَّبِيُّ صلعم ، فربَّما سبقه ببعض ما يقرؤه، فاستمهله بلال قدر ما يلحق القراءة والتأمين.
          قُلْت: هذا الحديث مُرسَل، وقال الحاكم في «الأحكام»: قيل: إنَّ أبا عثمان لم يُدرِكْ بلالًا، وقال أبو حاتمٍ الرازيُّ: رفعُه خطأٌ، ورواتُه ثِقاتٌ، عن عاصم عن أبي عثمان مُرسَلًا.
          وقال البَيْهَقيُّ: وقيل: عن أبي عثمان عن سلمان قال: قال بلال، وهو ضعيفٌ ليس بشيء.
          قُلْتُ: (عاصم) هو الأحول، و(أبو عثمان) هو عبد الرَّحْمَن بن ملٍّ النَّهْدِيُّ.
          (ص) وقال نافِعٌ: كانَ ابنُ عُمَرَ ☻ لَا يَدَعُهُ ويَحُضُّهُمْ، وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا.
          (ش) مطابقتُه للترجمة مِن حيث إنَّهُ كان لا يترك التأمين، وهذا يتناولُ أن يكون إمامًا وأن يكون مأمومًا، وكان في الصلاة أو خارج الصلاة.
          وهذا التعليق وصله عبد الرزَّاق عن ابن جُرَيْج: أخبرني نافع: أنَّ ابن عمر كان إذا ختم أمَّ القرآن؛ قال: آمين، لا يدع أن يؤمِّن إذا ختمها، ويحضُّهم على قولها.
          قوله: (لَا يَدَعُهُ) أي: لا يتركه.
          قوله: (ويَحُضُّهُمْ) بالضَّاد المُعْجَمة؛ أي: يحثُّهم على القول بآمين، وألَّا يتركوا.
          قوله: (وَسَمِعْتُ مِنْهُ) أي: من ابن عمر (في ذَلِكَ) أي: في القول بآمين (خيرًا) بالياء آخر الحروف، وهي رواية الكُشْميهَنيِّ؛ أي: فضلًا وثوابًا، وقال السفاقسيُّ: أي: خيرًا موعودًا لمن فعله، وفي رواية غيره: <خَبَرًا> بفتح الباء المُوَحَّدة؛ أي: حديثًا مرفوعًا، ويُستأنس في ذلك بما أخرجه البَيْهَقيُّ: كان ابن عمر إذا أمَّن الناس؛ أمَّن معهم، ويرى ذلك مِنَ السُّنَّة.