مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب [الصبر على الأذى]

          ░5▒ باب
          ثنا عمر بن حفص بسنده، عن شقيق قال عبد الله: كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبيًّا من الأنبياء الحديث.
          وابن بطال وابن التين أدخلاه في الباب قبله، وقالا: حديث ابن مسعود في الذين أدموا نبيهم وضربوه كانوا كفاراً، والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام شأنهم الصبر على الأذى وبذلك أمروا، قال تعالى لنبيه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ} [الأحقاف:35] فلا حجة للكوفيين فيه.
          وذكر القرطبي أنه ◙ هو الحاكي وهو المحكي عنه وكأنه أوحي إليه بذلك قبل وقوع قصة أحد، ولم يعين له ذلك النبي، فلما وقع له ذلك تعين أنه المعني بذلك.
          وسلف في ذكر بني إسرائيل، قال القاضي عياض: لا نعلم خلافاً في استباحة دم من سب بين علماء الأمصار وسلف الأمة، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره. وأشار ابن حزم إلى الخلاف في تكفير المستخف به، والمعروف ما قدمناه.
          قال ابن سحنون: أجمع العلماء أن شاتمه والمنتقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كَفَر.
          قال أبو الفضل: وحكم من غمصه أو غيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر، أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه أو أذى من عدو أو شدة من زمنة أو بالميل إلى نسائه فحكم هذا كله لمن قصد به نقيصة القتل.
          والحجة في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:57] الآية، وقال تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] إلى قوله: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات:2] ولا يحبط العمل إلا الكفر والكافر يقتل. إلى غير ذلك من الآيات.
          وأما الآثار فذكر الدارقطني من حديث عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة، بسنده عن الحسين بن علي، عن أبيه أن رسول الله صلعم قال: ((من سب نبيًّا فاقتلوه، ومن سب أصحابي فاضربوه)). وأخرجه الطبراني في ((أصغر معاجمه)) بلفظ: ((من سب الأنبياء [قتل] ومن سب أصحابي جلد)).
          وفي الصحيح: ((من لكعب بن الأشرف)) وقد سلف، ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة بخلاف غيره من المشركين وعلل بالأذى، فدل أن قتله إياه كان لغير الإشراك بل للأذى، وكذلك قتل أبي رافع. قال البراء كان يؤذي رسول الله ويعين عليه(1).
          وفي حديث آخر أن رجلاً كان يسبه فقال: ((من يكفيني عدوي؟)) فقال خالد: أنا فبعثه إليه فقتله.
          قال ابن حزم: وهو حديث صحيح مسند رواه عن رسول الله رجل من بلقين، قال ابن المديني: وهو اسمه، وبه يعرف.
          وذكر عبد الرزاق أنه ◙ سبه رجل فقال: ((من يكفيني عدوي؟)) فقال الزبير: أنا، فقتله.
          وفيه بيان واضح: أن من آذاه وجب قتله.
          وروى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبي معيط نادى يا معشر قريش ما لي أقتل من بينكم صبراً؟ فقال له ◙: ((بكفرك وافترائك على رسول الله)).
          وروي أن امرأة كانت تسبه فقال: ((من يكفيني عدوتي؟)) فخرج إليها خالد فقتلها.
          وعن ابن عباس: هجت امرأة من خطمة رسول الله فقال: ((من لي بها؟)) فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله فنهض فقتلها / وأخبره، فقال: ((لا ينتطح فيها عنزان)).
          فإن قلت: قد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة: ما انتقم رسول الله صلعم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم منه.
          فاعلم أن هذا لا يقتضي أنه لا ينتقم ممن سبه أو آذاه أو كذبه، فإن هذه من حرمات الله التي انتقم منها، وإنما يكون ما لا ينتقم له منه فيما يتعلق بسوء أدب مما لم يقصد فاعله أذاه، لكن مما جبلت عليه الأعراب من الجفاء والجهل أو أجبل عليه البشر من الغفلة كجبذ الأعرابي إزاره، وكرفع صوت الآخر عنده، وكما كان من تظاهر زوجتيه عليه، وأشباه هذا ممن يحسن الصفح عنه، أو يكون هذا مما آذاه به كافر، رجا بعد ذلك إسلامه، كعفوه عن اليهودي الذي سحره قلت: لكنه لم يسلم وعن الأعرابي الذي أراد قتله، وعن اليهودية التي سمته.
          وذكر ابن حزم: أن قصة اليهودية واليهودي والسحر كان يتعين قبل نزول سورة براءة، فهو منسوخ ولا يحل العمل بمنسوخ البتة.
          قال عياض: وأما من قال شيئاً من ذلك غير قاصد السب والإيذاء ولا معتقده، ولكنه تكلم بذلك جهلاً أو لضجر أو سكر اضطره إليه أو قلة ضبط لسانه وعجرفة وتهور في كلامه، فحكمه حكم الوجه الأول القتل دون تلعثم إذ لا يعذر أحد في الكفر لجهالة ولا لشيء مما ذكرناه إذ كان عقله في فطرته سليماً، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
          وعبارة ابن حزم: أصحابنا توقفوا في كفر من سب النبي صلعم من المسلمين.
          وقالت طائفة: إنه ليس كفراً، روينا عن علي أنه قال: لا أوتى برجل قذف داود بالزنا إلا جلدته حدين.
          ومن سب أحداً من الصحابة جلد، وإن سب عائشة قتل، كما ذكره في ((الزاهي)) عن مالك قال: لقوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17] فمن عاد لمثله كفر، ومن كفر قتل.
          قال: وفي سب أمهات المؤمنين غير عائشة قولان: أحدهما: يقتل؛ لأنه سب النبي بسبه الحليلة. والثاني: أنها كالصحابي يحد حد المفتري.
          وقيل: من سب عائشة بما في القرآن براءتها منه فهو كفر، وإن سبها بخلافه فلا.
          قوله ◙ لعائشة: ((إن الله رفيق يحب الرفق)) قال الشيخ أبو الحسن بن القابسي: لم يقع في كل حديث، ويجب إثبات هذا الاسم لهذا الحديث لصحته؛ إذ الأسماء لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة والإجماع.
          ورده ◙ على اليهود: ((وعليكم)) رواه أنس بالواو ورواية عائشة: ((بل عليكم))، وفي رواية ابن عمر: ((عليك))، وفي لفظ: ((عليكم)) بغير واو.
          قال ابن أبي حبيب: لم يقل وعليك؛ لأنه إذا قلتها حققت على نفسك ما قال، ثم أشركته معك فيه، ولكن نقل عليك كأنه رد عليه.
          والقاضي أبو محمد يقول: الراد: وعليكم بالواو.
          وقال الشيخ أبو محمد في ((رسالته)): ومن قال عليك السلام بكسر السين: وهي الحجارة فقد قيل ذلك.
          وذكر عن ابن طاوس: يرد عليهم: علاك السام؛ أي: ارتفع عليك، والسام: الموت. واختلف هل يرد ‰؟ فأباه أكثر العلماء وسمح فيه بعضهم.
          واختلف هل يبدءون؟ فمنعه الأكثر وأجازه بعضهم إذا كنت مفتقراً إليه لحاجة، وسلف ذلك في موضعه.


[1] في هامش المخطوط: ((وهو في الصحيح أيضاً)).