الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فلما كان يوم خيبر وقعنا

          3155- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أي: المِنقَريُّ، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) أي: ابنُ زيادٍ العبديُّ البصريُّ، قال: (حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ) بفتحِ الشِّين المعجمةِ وسكونِ التحتيَّة يليها موحدة؛ وهو: سليمانُ بنُ أبي سليمانَ فيروزَ الكوفيُّ.
          (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى) بفتحِ الهمزةِ والفاء بينهما واو ساكنةٌ، والابنُ: عبدُ الله، والأبُ: علقمةُ (☻ يَقُولُ: أَصَابَتْنَا) بسكون التاء (مَجَاعةٌ) بفتحِ الميم والجيمِ؛ أي: جوعٌ شديدٌ، كذا في الشرَّاحِ، لكن في ((القاموس)): الجوعُ: ضدُّ: الشِّبَعِ، وبالفتح: المصدرُ، جاع: جَوعاً ومَجاعةً، فهو جائعٌ وجوعانُ، وهي جائعةٌ وجَوعى، من جِياعٍ وجُوَّعٍ؛ كرُكَّعٍ، انتهى.
          (لَيَالِيَ خَيْبَرَ) بنصبِ: ((لياليَ)) على الظرفيةِ، متعلقٌ بـ((أصابَتْنا))، أو بمحذوفٍ صفةِ: ((مَجاعةٌ))، و((خَيبرَ)) بفتح الخاء المعجمة والمنعِ من الصرفِ (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ) برفعِ: ((يومُ))، ويجوزُ نصبُه (وَقَعْنَا) بفتح الواو والقاف وسكون العين (فِي الْحُمُرِ) أي: في ذبحِها _بضمِّ الحاء المهملةِ والميم_، جمعُ: حِمارٍ، بخلافِه بسكون الميم، فإنه جمعُ: أحمَرَ (الأَهْلِيَّةِ) احترازٌ عن الوحشيةِ، فإنها لم تُحرَّمْ (فَانْتَحَرْنَاهَا) بسكونِ النون وفتحِ الفوقيَّة والحاء المهملة؛ أي: فذبحناها في مَنحَرِها، وفي روايةِ البراءِ وابنِ أبي أَوفى في المغازي: ((فأصابوا حُمُراً فطبَخُوها)) أي: بعد نحرِها، وعِدَّةُ الحُمُرِ التي نحَرُوها كانت عشرين أو ثلاثين، كما ذكره الواقِديُّ بالشكِّ.
          (فَلَمَّا غَلَتِ) بفتحِ الغين المعجمةِ واللام (الْقُدُورُ) بضمِّ القاف، جمعُ: قِدْرٍ _بكسرها_؛ أي: بلحمِ الحُمُرِ.
          قال في ((المصباح)): غلَتِ القِدرُ غَلْياً _من بابِ ضرَبَ_ وغَلَياناً أيضاً، وفي لغةٍ: غلِيَت تغلِي _من بابِ تعِبَ_.
          وجملةُ: (نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ / صلعم) جوابُ: ((لمَّا)) والمنادي هو: أبو طلحةَ: أَلا (أَكْفِئُوا) بفتحِ الهمزةِ الأولى وضمِّ الثانية بينهما كافٌ ساكنةٌ ففاء مكسُورة، ولابنِ عسَاكرَ زيادةُ: <أن> مفتوحة قبل: ((أكفِئُوا)) أي: اقلِبُوا أو أميلُوا (الْقُدُورَ) أي: ليُراقَ ما فيها.
          قال في ((القاموس)): كفأَه _كمنَعَه_ صرَفَه وكبَّه وقلَبَه فأكفَأَه، وأكفَأَ: مالَ وأمالَ وقلَبَ، انتهى.
          (ولاَ تَطْعَمُوا) بفتحَ أوَّله وثالثه، من: طعِمَ _بكسرِ العين_: ذاقَ؛ أي: ولا تذُوقوا (مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئاً) نكَّرَه ليشمَلَ القليلَ والكثيرَ.
          (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أي: ابنُ أبي أَوفى ☺ راوي الحديثِ، فقد ذكره المصنِّفُ في المغازي من وجهٍ آخرَ عن الشَّيبانيِّ بلفظِ: ((قال ابنُ أبي أوفى: فتحدَّثْنا))، فذكَرَ نحوَ ما هنا، ولمسلمٍ عن الشَّيبانيِّ قال: ((فتحدَّثنا بينَنا)) أي: الصحابةُ، وهو بمعنى قولِه هنا: (فَقُلْنَا) أي: الصحابةُ بعضُنا لبعضٍ على سبيلِ الظنِّ (إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلعم) أي: عن لحومِ الحُمرِ الأهليةِ (لأَنَّهَا) أي: الحمُرَ الأهليةَ (لَمْ تُخَمَّسْ) بتشديد الميم مبنياً للمفعولِ؛ أي: لم يؤخَذْ منها خمُسُها ليُصرَفَ في مصارِفِه.
          (قَالَ) أي: عبدُ الله المذكورُ (وَقَالَ آخَرُونَ) أي: من الصحابةِ (حَرَّمَهَا) بتشديدِ الراء المفتوحة؛ أي: حرَّمَ النبيُّ صلعم الحمُرَ الأهليةَ (أَلْبَتَّةَ) بقطع الهمزة مفتوحة، وقد يقالُ: بتَّةً بدون أل؛ أي: قطعاً، سواءٌ خُمِّسَت أو لا، من البتِّ؛ وهو: القطعُ، فهو منصوبٌ على المصدريةِ.
          قال في ((المصباح)): بتَّه بتًّا _من بابَي: ضرَبَ وقتَلَ_ قطَعَه، وبتَّ الرجلُ طلاقَ امرأتِه، فهي مبتوتةٌ، والأصلُ: مبتوتٌ طلاقُها، وطلَّقَها طلقةً بتَّةً، وثلاثاً بتَّةً إذا قطَعَها عن الرَّجعةِ، وأبَتَّ طلاقَها _بالألف_ لغةٌ.
          قال الأزهريُّ: ويستعمَلُ الثلاثيُّ والرُّباعيُّ لازمَين ومتعدِّيَين، انتهى.
          قال في ((الفتح)): والحاصلُ أنَّ الصحابةَ اختلَفُوا في علَّةِ النهيِ عن لحمِ الحُمُرِ هل هو لِذاتِها، أو لعارضٍ، انتهى.
          أي: ككَونِها لم تُخمَّسْ، أو لكونِها تأكلُ العَذِرةَ.
          وقوله: (وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ) أي: التابعيَّ المشهورَ (فَقَالَ: حَرَّمَهَا ألْبَتَّةَ) من كلامِ الشيبانيِّ، وللنسائيِّ روايةٌ عن الشَّيبانيِّ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ في غيرِ هذا الحديثِ، فهذه الأحاديثُ ونحوُها تدلُّ على تحريمِ الحمُرِ الأهليةِ.
          فإن قيل: رواى ابنُ شاهينَ في ((ناسخِه)) استدلالاً على نسخِ التَّحريمِ بما رواه أبو داودَ من حديثِ غالبِ بنِ الأَبجرِ أنه قال: يا رسولَ الله؛ لم يبقَ في مالي شيءٌ أُطعمُ أهلي إلا حُمُرٌ لي، فقال: ((أطعِمْ أهلكَ من سمينِ مالِك)).
          وأجيبَ بأنَّ الأحاديثَ الصَّحيحةَ الثابتةَ ترُدُّ ذلك، وأجاب الخطَّابيُّ بأنَّ حديثَ غالبٍ مختلِفٌ في إسنادِه، فلا يثبُتُ، والنهيُ ثابتٌ.
          وقال عبدُ الحقِّ: ليس هو بمتَّصلِ الإسنادِ، وقال السُّهيليُّ: ضعيفٌ لا يعارَضُ بمثلِه حديثُ النهيِ.
          وحديثُ البابِ الأخيرِ أخرجَه المصنفُ في المغازي أيضاً، ومسلمٌ في الذَّبائحِ، والنسائيُّ في الصَّيدِ، وابنُ ماجه في الذَّبائحِ.