الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول النبي: أحلت لكم الغنائم

          ░8▒ (بابُ قَوْلِ) أي: بيانِ قولِ (النَّبِيِّ صلعم: أُحِلَّتْ) بتشديد اللام، فعلٌ ماضٍ من المزيدِ مبنياً للمفعول (لَكُمُ) أي: معشَرَ هذه الأمةِ (الْغَنَائِمُ) نائبُ فاعلِ: ((أُحلَّت))؛ أي: ولم تحِلَّ لغيرِكم.
          قال في ((الفتح)): كذا لجميعِ الرُّواةِ، ووقعَ عند ابنِ التينِ: ((أُحلَّت لي)) وهو أشبهُ؛ لأنَّه ذُكرَ بهذا اللفظِ في البابِ. قال: وهذا الثاني طرفٌ من حديثِ جابرٍ المارِّ في التيمُّمِ، وتقدَّمَ بيانُ ما كان مَن قبلَنا يصنَعُ في الغنيمةِ، انتهى.
          وأراد بقولِه: وهذا الثاني؛ أي: والحديثُ الذي وقَعَ عند ابنِ التينِ بلفظِ: ((أُحلَّت ليَ الغنائمُ)) أنه طرفٌ من حديثٍ وصلَه المصنِّفُ في بابِ التيممِ، ولفظُه هناك: عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ: أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((أُعطيتُ خمساً لم يعطَهنَّ أحدٌ من قبلي، نُصرتُ بالرعبِ مسيرةَ شهرٍ، وجُعلت لي الأرضُ مسجداً وطَهوراً، فأيُّما رجلٍ من أمتي أدركَتْه الصلاةُ فليُصلِّ، وأُحلَّت لي الغنائمُ ولم تحِلَّ لأحدٍ قبلي، وأُعطيتُ الشفاعةَ، وكان النبيُّ يُبعثُ إلى قومِه خاصةً، وبُعثتُ إلى الناسِ عامةً))، انتهى.
          قال الخطَّابيُّ وغيرُه: كان مَن قبلَنا على ضربَين؛ منهم مَن لم يؤذَنْ له في الجهادِ، فلم تكن لهم مغانمُ، ومنهم مَن أُذنَ لهم فيه، لكن كانوا إذا غنِمُوا شيئاً لم يحِلَّ لهم، بل تجيءُ نارٌ من السماءِ فتحرِقُه، انتهى.
          وأما الحديثُ بلفظِ: ((أُحلَّتْ لكمُ الغنائمُ)) فلعلَّه وردَ هكذا، أو لأنَّ قولَه: ((أُحلَّتْ لي الغنائمُ)) يستلزِمُ أنَّها أُحلَّت لأمَّتِه؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ ما ثبتَ للنبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ يثبُتُ لأمَّتِه وبالعكسِ، إلا ما دلَّ الدليلُ على الخصوصيَّةِ، فليُراجَعْ.
          (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: <╡> بدلَ: ((تعالى)) ({وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ} [الفتح:20]) بفتحِ الميم، جمعُ: مغنَمٍ، بمعنى الغنيمةِ، مفعولٌ ثانٍ لـ{وَعَدَكُمُ} ({كَثِيرَةً}) نعتُ: {مَغَانِمَ}، وجملةُ: ({تَأْخُذُونَهَا}) أي: المغانمَ، صفةٌ ثانيةٌ لـ{مَغَانِمَ} أو حالٌ منها، والمرادُ بها: ما غنِمُوه في حياتِه عليه السلامُ، وما يحصُلُ لأمَّتِه بعده إلى يومِ القيامةِ، ورأيتُ في نُسخٍ صحيحةٍ زيادةَ: <الآيةَ> بعد: {تَأْخُذُونَهَا}.
          ({فَعَجَّلَ}) أي: اللهُ ({لَكُمْ هَذِهِ}) أي: مغانمَ خيبرَ، قاله البيضاويُّ وغيرُه، زاد أبو ذرٍّ بعد: {هَذِهِ}: <الآيةَ> أي: اقرأِ الآيةَ إلى آخرِها.
          قال في ((الفتح)): هذه الآيةُ نزلت في أهلِ الحُديبيَةِ بالاتفاقِ، ولمَّا انصرَفُوا من الحديبيةِ فتَحُوا خيبرَ، كما سيأتي، انتهى.
          وقال ابنُ بطالٍ: قال مروانُ والمسوَرُ: انصرفَ رسولُ الله من الحديبيَةِ، فنزل عليه سورةُ الفتحِ فيما بين مكَّةَ والمدينةِ، فأعطاه اللهُ فيها خيبرَ، فقدِمَ رسولُ اللهِ المدينةَ في ذي الحجةِ، وسارَ إلى خيبرَ في المحرَّمِ، ففتحَها، وهذه الآيةُ في أثناءِ سورةِ الفتحِ، فتكلَّمَ على بقيَّتِها، وهو: ({وَكَفَّ}) معطوفٌ على {فعجَّلَ} المرتَّبِ على ما قبلَه من الوعدِ بالمغانمِ / الكثيرةِ؛ أي: ومنَعَ اللهُ ({أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}) أي: كفَّارِ أهلِ مكَّةَ، أو أعمُّ، وقال البيضاويُّ: أي: أيديَ أهلِ خيبرَ وحلفائهم من بني أسدٍ وغَطَفانَ، وأيديَ قريشٍ بالصُّلحِ، انتهى.
          وذُكرَ أنَّ أسدَ وغطَفانَ حلفاءَ أهلِ خيبرَ جاءوا لينصروا أهلَ خيبرَ، فقذفَ اللهُ في قلوبِهم الرُّعبَ، فانصرفوا، وعبارةُ البغويِّ: وذلك أنَّ النبيَّ عليه السلامُ لمَّا قصَدَ خيبرَ وحاصرَ أهلَها، همَّت قبائلُ من أسدٍ وغطَفانَ أن يُغيروا على عيالِ المسلمين وذرارِيهم بالمدينةِ، فكفَّ اللهُ أيديَهم بالرُّعبِ في قلوبِهم.
          ({وَلِتَكُونَ}) أي: هذه الكَفَّةُ أو الغنيمةُ ({آَيَةً}) أي: أمارةً للمؤمنين يعرِفون بها أنَّهم من اللهِ تعالى بمكانٍ، أو يعرفون بها صِدقَ رسولِه في وعدِه لهم بفتحِ خيبرَ حين رجوعِه من الحُديبيَةِ، أو في وعدِه لهم مغانمَ، أو لتكونَ أَمارةً على فتحِ مكَّةَ.
          تنبيه: قولُه: {وَلِتَكُونَ} عطفٌ على علَّةِ الكفِّ أو التعجيلِ؛ أي: كفَّ أيديَ الناسِ عنكم لتسلَموا، أو عجَّلَ لكم هذه لتأخُذوا، أو هو علَّةٌ لمحذوفٍ مقدَّرٍ بعد الواوِ؛ أي: وفعلَ ذلك لتكونَ آيةً.
          ({لِلْمُؤْمِنِينَ}) أشار إلى جميعِ ذلك البيضاويُّ ({وَيَهْدِيَكُمْ}) بنصبِه عطفاً على: {تَكُونَ} ({صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}) فسَّرَه البيضاويُّ بقوله: هو الثقةُ بفضلِ الله والتوكُّلُ عليه. وقال البغويُّ: أي: ويثبِّتَكم على الإسلامِ، ويزيدَكم بصيرةً ويقيناً بصُلحِ الحديبيَةِ وفتحِ خيبرَ.
          وقوله: (وَهْيَ) ولأبي ذرٍّ: <فهي> بالفاء؛ أي: فالغنيمةُ، وفي بعضِ الأصولِ: <فهو> بالتذكير؛ أي: مالُ الغنيمةِ (لِلْعَامَّةِ) أي: لجميعِ المسلمين؛ أي: بحسَبِ ظاهرِ الآيةِ (حَتَّى يُبَيِّنَهُ) أي: الحُكمَ، أو الاستِحقاقَ (الرَّسُولُ) أي: رسولُ الله (صلعم) أي: إلى أن يبيِّنَ رسولُ الله بأنَّ مالَ الغنيمةِ للمقاتِلين ولأصحابِ الخُمسِ، فالآيةُ مجمَلةٌ بيَّنَتها السُّنةُ.
          وقال في ((الفتح)): فالغنيمةُ لعمومِ المسلمين ممَّن قاتَلَ حتى يبيِّنَ الرسولُ مَن يستحِقُّ ذلك ممَّن لا يستحِقُّه، وقد وقعَ بيانُ ذلك بقولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] الآيةَ.