الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث علي: بينا أنا جالس في أهلي حين متع النهار

          3094- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا / إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ) بفتحِ الفاء وسكونِ الراء، نسبةً إلى فَرْوة جد، كذا في ((اللبِّ))، أي: القرشيُّ المدَنيُّ الأمويُّ.
          قال الكرمانيُّ: قال الغسَّانيُّ: في بعضِ النُّسخِ: <محمدُ بنُ إسحاقَ>، وهو خطأٌ، انتهى.
          ونسَبَها في ((الفتح)) لروايةِ ابنِ شَبُّوَيهِ عن الفِرَبريِّ، وقال: وهو مقلوبٌ، وحكاه عياضٌ عن روايةِ القابِسيِّ، وقال: وهو وهمٌ.
          قال: (حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) أي: الإمامُ المجتهدُ الأصبَحيُّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أي: الزُّهريِّ (عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ) بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الواو.
          (ابْنِ الْحَدَثَانِ) بالحاء والدَّال المهملتين المفتوحتين وبالمثلثة؛ أي: ابنِ عوفِ بنِ ربيعةَ النَّصْريِّ _بفتحِ النونِ وسكونِ الصَّاد المهملةِ_، من بني نَصرٍ، واختُلفَ في صُحبتِه.
          وقال العينيُّ: يُكْنى أبا سعيدٍ، زعمَ أحمدُ بنُ صالحٍ المصريُّ _وكان من جملةِ أهلِ هذا الشأنِ_ أنَّ له صُحبةً.
          وقال سلَمةُ بنُ وَرْدانَ: رأيتُ جماعةً من أصحابِ رسولِ اللهِ صلعم، فذكَرَهم، وذكَرَ فيهم مالكَ بنَ أَوسِ بنِ الحدَثانِ النَّصريَّ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): أبوه صحابيٌّ، وأما هو؛ فقد ذُكرَ في الصحابةِ، وقال أبو حاتمٍ وغيرُه: لا تصِحُّ له صُحبةٌ، وحكى ابنُ أبي خَيثَمةَ عن مصعَبٍ أو غيرِه أنَّه ركِبَ الخيلَ في الجاهليةِ.
          قلتُ: فعلى هذا؛ لعلَّه لم يدخُلِ المدينةَ إلا بعد موتِ النبيِّ صلعم، كما وقعَ لقيسِ بنِ أبي حازمٍ، دخلَ أبوه وصحِبَ، وتأخَّرَ هو مع إمكانِ ذلك، وقد تشارَكا أيضاً في أنَّه قيل في كلٍّ منهما أنه أخَذَ عن العشَرةِ، وليس لمالكِ بنِ أَوسٍ هذا في ((البخاريِّ)) سوى هذا الحديثِ، وآخرَ في البيوعِ.
          وقال في ((التجريدِ)): أدركَ زمنَ النبيِّ صلعم، وقال أنسُ بنُ عياضٍ عن سلَمةَ بنِ وَرْدانَ عنه أنَّه سمعَ النبيَّ يقولُ: ((مَن ترَكَ الكذبَ بُنيَ له في ربَضِ الجنَّةِ))، وقد صحَّحَ أحمدُ بنُ صالحٍ المصريُّ هذا الحديثَ، وقال ابنُ خُزيمةَ: في القلبِ من سلَمةَ بنِ وَرْدانَ، انتهى.
          وقوله: ((وكان...)) إلخ، من كلامِ الزُّهريِّ، وفي صنيعِه ذلك إشارةٌ إلى طلبِ العُلوِّ في الإسنادِ والحرصِ عليه، وذلك لأنَّه لم يقنعْ بالحديثِ عنه حتى دخَلَ عليه ليُشافِهَه به، ولم ينفرِدْ بروايةِ هذا الحديثِ الزُّهريُّ كما ظنَّه قومٌ، نبَّهَ على ذلك في ((فتحِ الباري)).
          (وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ) بالجيم مصغراً؛ أي: ابنِ مُطعِمٍ (ذَكَرَ) بفتحات (لِي ذِكْراً) بكسرِ الذَّال المعجمةِ؛ أي: شيئاً (مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ) أي: الآتي (فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ) بالنصب؛ أي: إلى أن أدخُلَ، وبالرفعِ على أنَّها عاطفةٌ، ورجَّحَ ابنُ مالكٍ الأولَ (عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَقَالَ مَالِكٌ) أي: ابنُ أوسٍ.
          (بَيْنَا) بغير ميمٍ لغيرِ أبي ذرٍّ (أَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي حِينَ مَتَعَ النَّهَارُ) بفتحِ الميمِ والمثنَّاة الفوقيَّة الخفيفة والعين المهملةِ مفتوحات؛ أي: ارتفَعَ وطالَ ارتفاعُه، كذا في الكرمانيِّ.
          وقال في ((الفتح)): أي: علا وامتدَّ، وقيل: هو ما قبلَ الزوالِ، ووقعَ في روايةِ مسلمٍ من طريقِ جُوَيريَةَ عن مالكٍ: ((حينَ تعالى النهارُ))، وفي روايةِ يونُسَ عن ابنِ شهابٍ عند عمرَ بنِ شَبَّةَ: ((بعدما ارتفَعَ النهارُ)).
          قوله: (إِذَا رَسُولُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) جوابُ: ((بينا)) قال في ((الفتح)): لم أقِفْ على اسمِ رسولِ عمرَ، ويحتملُ أنه يَرْفا الحاجبُ الآتي (يَأْتِينِي، فَقَالَ) أي: رسولُ عمرَ (أَجِبْ) بقطعِ الهمزةِ (أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: عمرَ (فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَدْخُلَ) بالنصبِ وبالرفعِ.
          (عَلَى عُمَرَ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رِمَالِ سَرِيرٍ) بكسرِ راء: ((رِمالِ))، وقد تضم، وقد تفتح، وبتخفيف الميم: ما يُنسَجُ من سَعَفِ النخلِ ونحوِه، وقيل كما في الكرمانيِّ: ((رِمالِ سريرٍ)): ما مُدَّ على وجهِه من خيوطٍ وشريطٍ / ونحوِهما.
          وقال في ((الفتح)): وأغربَ الداوديُّ فقال: هو السريرُ الذي يُعملُ من الجَريدِ، وفي روايةِ جوَيريَةَ: ((فوجدتُه في بيتِه جالساً على سريرٍ مفضِياً إلى رمالِه)) أي: ليسَ تحته فراشٌ؛ إذ الإفضاءُ إلى الشيءِ لا يكونُ بحائلٍ، انتهى.
          (لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ) بكسرِ الفاء وتخفيفِ الراء وأحد الضَّميرَين لعمرَ، والآخرُ لرمالِ السَّريرِ، فتدبَّر.
          (مُتَّكِئٌ) بالرفع، خبرٌ ثانٍ لـ((هو)) (عَلَى وِسَادَةٍ) بكسرِ الواو، متعلقٌ بـ((متَّكئٌ)) (مِنْ أَدَمٍ) بفتحتين؛ أي: جلدٍ.
          (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ: يَا مَالِ) بكسرِ اللام على لغةِ مَن ينتظرُ، وهي الفُصحى، ويجوزُ: يا مالُ _بالضم_ على لغةِ مَن لا ينتظرُ، وثبتَ في بعضِ الأصولِ كذلك؛ أي: <يا مالكُ>، والمرادُ به: ابنُ أوسٍ.
          (إِنَّهُ) أي: الشأنَ (قَدِمَ عَلَيْنَا) يريدُ عمرَ نفسَه، أو المسلمين (مِنْ قَوْمِكَ) أي: من بني نَصرٍ (أَهْلُ أَبْيَاتٍ) أي: قومٍ معهم أهلُهم، قاله الزركشيُّ، وكانوا قد أصابهم جَدْبٌ وقَحطٌ في بلادِهم، فانتجَعُوا المدينةَ.
          (وَقَدْ أَمَرْتُ لهمْ) وفي الفرعِ وأصلِهِ: <فيهم> بـ<في>، وهي للسببيةِ؛ لحديثِ: ((إنَّ امرأةً دخلَتِ النارَ في هرَّةٍ)) (بِرَضْخٍ) بفتحِ الراء وسكونِ الضَّاد المعجمةِ فخاء كذلك؛ أي: بعطيَّةٍ قليلةٍ غيرِ مقدَّرةٍ (فَاقْبِضْهُ) بكسرِ الموحَّدة، وسقط الفاءُ من بعضِ النُّسخِ.
          (فَاقْسِمْهُ) بكسرِ السِّين المهملةِ (بَيْنَهُمْ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَ) بفتحِ التاء (بِهِ) أي: بالرَّضخِ (غَيْرِي) وجوابُ: ((لو)) محذوفٌ، ويحتملُ أنَّ: ((لو)) للتمنِّي، فلا جوابَ لها، ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستملي: <له> بدلَ: ((به))، ولعله قال ذلك لتحرُّجِه عن قَبولِ الأمانةِ.
          (قَالَ) أي: عمرُ (اقْبِضْهُ) ولأبي ذرٍّ: <فاقبِضْه> (أَيُّهَا الْمَرْءُ) والظاهرُ أنَّ مالكَ بنَ أوسٍ قبَضَ الرَّضخَ المذكورَ لعزمِ عمرَ عليه.
          (فَبَيْنَا) بغير ميم لغيرِ أبي ذرٍّ (أَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ أَتَاهُ حَاجِبُهُ) بكسرِ الجيم (يَرْفَا) بفتحِ التحتيَّة وسكونِ الراء وبالفاء وبألف آخره، وقد تدخلُ عليه الألفُ واللامُ، وقد تهمَزُ.
          قال في ((الفتح)): وهي روايتُنا من طريقِ أبي ذرٍّ، ويَرْفا هذا كان من مَوالي عمرَ، أدركَ الجاهليةَ، ولا يُعرفُ له صُحبةٌ، وحَجَّ مع عمرَ في خلافةِ أبي بكرٍ، وله ذكرٌ في حديثِ ابنِ عمرَ قال: قال عمرُ لمـَولًى له يُقالُ له: يَرْفا: إذا جاءَ طعامُ يَزيدَ بنِ أبي سفيانَ فأعلِمْني، فذكرَ القصَّةَ.
          وروى سعيدُ بنُ منصورٍ عن أبي الأحوَصِ، عن أبي إسحاقَ، عن يَرْفا قال: قال لي عمرُ: إني أنزلتُ نفسي من مالِ المسلمين منزِلةَ مالِ اليتيمِ، وهذا يُشعِرُ بأنه عاشَ إلى خلافةِ معاويةَ، انتهى، فتأمله.
          (فَقَالَ) أي: يَرْفا لعمرَ (هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ) أي: ابنِ عفَّانَ (وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ) أي: ابنِ العوَّامِ (وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) ♥؛ أي: هل لك رغبةٌ أو حاجةٌ أو إذنٌ في الاجتماعِ بهؤلاءِ المذكورين.
          قال في ((الفتح)): ولم أرَ في شيءٍ من طُرقِه زيادةً على الأربعةِ المذكورين إلا في روايةِ النَّسائيِّ وعمرَ بنَ شَبَّةَ، فإنَّ فيها: ((وطَلْحةِ بنِ عُبيدِ اللهِ))، وكذا أخرجَه أبو داودَ عن رجلٍ لم يُسمِّه، قال: ((دخلَ العبَّاسُ وعليٌّ))، فذكرَ القصَّةَ بطولِها، وفيها ذِكرُ طلحةَ، لكن لم يذكُرْ عثمانَ.
          وجملةُ: (يَسْتَأْذِنُونَ) أي: في دخولِهم عليك، حاليةٌ أو مستأنفةٌ (قَالَ: نَعَمْ) أي: لي رغبةٌ في دخولِهم، وفي المغازي: ((فأدخلَهم)) (فَأَذِنَ لَهُمْ) بكسرِ الذَّال المعجمةِ، فعلٌ ماضٍ؛ أي: فأذِنَ لهم عمرُ أو يَرْفا.
          (فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا) أي: الأربعةُ (عَلَى عُمَر، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَا يَسِيراً) أي: جلوساً يسيراً، أو زمناً يسيراً (ثُمَّ قَالَ) أي: يَرْفا لعمرَ (هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ) أي: ابنِ أبي طالبٍ (وَعَبَّاسٍ) أي: ابنِ عبدِ المطَّلبِ، زاد شُعيبٌ في المغازي: ((يستأذِنانِ)) (قَالَ) عمرُ (نَعَمْ. فَأَذِنَ) بكسرِ الذَّال المعجمةِ (لَهُمَا) أي: لعليٍّ والعباسِ (فَدَخَلاَ فَسَلَّمَا) أي: على عمرَ (وَجَلَسَا) وفي أكثرِ / الأصُولِ: <فجلَسَا> بالفاء.
          (فَقَالَ عَبَّاسٌ) ☺ (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا) أي: عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وجملةُ: (وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ) حاليةٌ؛ أي: ينتازَعانِ.
          (فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلعم مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ) ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستملي: <من مالِ بني النَّضيرِ> وفي روايةِ شُعيبٍ ويونُسَ: ((فاستَبَّ عليٌّ وعباسٌ))، وفي روايةِ عَقيلٍ في الفرائضِ: ((اقضِ بيني وبين هذا الظالمِ))، وفي روايةِ جوَيريَةَ: ((وبين هذا الكاذبِ الآثمِ الغادرِ الجائرِ))، قاله في ((الفتح))، ولم أرَ في شيءٍ من الطُّرقِ أنه صدَرَ من عليٍّ في حقِّ العباسِ شيءٌ، بخلافِ ما يُفهمُ.
          قوله في روايةِ عَقيلٍ: ((استَبَّا))، واستصوَبَ المازِريُّ صنيعَ مَن حذَفَ هذه الألفاظَ من الحديثِ، وقال: لعلَّ بعضَ الرُّواةِ وهَمَ فيها، فإن كانت محفوظةً، فأجودُ ما يقالُ: إنَّ العباسَ قالَها دلالاً على عليٍّ؛ لأنه كان عنده بمنزلةِ الولدِ، فأراد رَدْعَه عما يعتقدُ أنه مخطئٌ فيه، وأنَّ هذه الأوصافَ يتَّصِفُ بها لو كان يفعَلُ ما يفعَلُه عن عمدٍ، قال: ولا بدَّ من هذا التأويلِ لوقوعِ ذلك بمحضرِ الخليفةِ ومَنْ ذُكرَ معه، ولم يصدُرْ منهم إنكارٌ لذلك مع ما عُلمَ من تشدُّدِهم في إنكارِ المنكَرِ.
          قال العينيُّ: قلتُ: كلُّ هذا لا يفيدُ شيئاً، بل يجبُ إزالةُ هذه اللفظةِ من الكتابِ، وحاشى من عباسٍ أن يتلفَّظَ بها، ولا سيَّما بحضرةِ عمرَ بنِ الخطَّابِ وجماعةٍ من الصحابةِ، ولم يكن عمرُ ممن يسكُتُ عن مثلِ هذا؛ لصلابَتِه في أمورِ الدِّينِ، وعدمِ مُبالاتِه من أحدٍ، وفيما قاله نسبةُ عمرَ إلى تركِ المنكَرِ، وعجزُه عن إقامةِ الحقِّ، فاللائقُ لحالِ الكلِّ إزالةُ هذه من الوسَطِ، فلا يحتاجُ إلى تأويلٍ غيرِ طائلٍ، فافهم.
          (فَقَالَ الرَّهْطُ) بسكونِ الهاء، هو: ما دونَ العشَرةِ ليس فيهم امرأةٌ، وقوله: (عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ) أي: المذكورون آنفاً، بيانٌ لـ((الرَّهطُ)) أو بدلٌ، أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، ولمسلمٍ: ((فقال القومُ))، وزاد: ((قال مالكُ بنُ أَوسٍ: يُخيَّلُ إليَّ أنهم قد كانوا قدَّموهم لذلك))، وفي مسندِ أبي عمرَ: ((فقال الزُّبيرُ بنُ العوَّامِ: اقضِ بينَهما))، ففيه بيانُ مَن باشَرَ سؤالَ عمرَ في ذلك.
          (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا) أي: بين عليٍّ والعباسِ (وَأَرِحْ) بفتحِ الهمزةِ وكسر الراء (أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ) أي: من المخاصَمةِ والنِّزاعِ بينهما.
          (قَالَ) ولأبي ذرٍّ: <فقال> (عُمَرُ) ☺ (تَيْدَكُمْ) بفتحِ المثنَّاة الفوقيَّة وسكونِ التحتيَّة وفتح الدَّال المهملةِ، بوزنِ: كَيدَكم، وهذه هي التي في فرعِ ((اليونينيةِ))، ونسبَها عياضٌ للقابِسيِّ وعَبدوسٍ.
          قال القاضِي عياضٌ: الفوقيَّة مبدَلةٌ من واوٍ، والتحتيةُ من همزةٍ؛ لأنَّ أصلَه: وادةٌ، فالنصبُ على المصدريةِ، والتقدير: تِيدُوا تَيدَكم، ولأبي ذرٍّ: <تَئِدَكم> بفتحِ الفوقيَّة وهمزة مكسورة فدال مفتوحة.
          قال ابنُ التينِ: وأصلُها: تَيدَتَكم، من: التَّؤُدةِ؛ وهي: الرِّفقُ، كذا في ((الفتح))، وزاد القسطلانيُّ: وضبطَها غيرُه بالقلَمِ بإسكان الدال، وآخرُ بالقلَمِ أيضاً برفعِها، انتهى، فليتأمل.
          قولُه: بإسكانِها، ولعله بناءٌ إن قلنا: إنه اسمُ فعلٍ، وأما الرفعُ؛ فعلى أنه مصدرُ خبرٍ لمحذوفٍ، وللأصيليِّ: <تِئَدُكم> بكسرِ التاء وضم الدَّال مع الهمزةِ المفتوحة، وضبطَها بعضُهم بالقلمِ بسكونِ الدالِ، وكأنَّها بناءٌ أيضاً، وعند بعضِهم: تِئْدَكم _بكسرِ الفوقيَّة وسكونِ الهمزةِ وفتح الدَّال_.
          قال في ((المصابيح)): كأنَّه مصدرُ: تأَدَ _أي: بفتحِ الهمزةِ_ يتئِدُ _أي: بكسرها_، ثم تُركَتْ همزتُه تخفيفاً، فصارَ: تادَ يتئِدُ، كسارَ يسيرُ، وعليه فلا يردُ ما في ((الفتحِ)) من قولِه: ورُدَّ بأنه لم يُسمَعْ في اللغةِ، انتهى، فتأمل.
          قال: والمشهورُ في هذا الفعلِ: اتَّأَدَ يتَّئِدُ، على وزنِ: افتَعَلَ، من: التَّؤُدةِ؛ وهي: السكونُ، نصبٌ على المصدرِ، والتقديرُ: / تِئْدُوا تَيدَكم _بكسرِ التاء وبهمزة ساكنة_، انتهى.
          وقال في ((التنقيح)): وسقطتِ اللفظةُ من روايةِ الجُرجانيِّ، انتهى.
          والحاصلُ أنه إمَّا اسمُ فعلٍ، فالكافُ حرفُ خطابٍ؛ أي: اصبِرُوا واتَّئدوا على هيئتِكم، وإمَّا مصدرُ: تاد يتِيدُ، كسارَ يسيرُ، والمعنى: تِيدوا تَيدَكم، كما يقالُ: سيرُوا سيركَم، فالكافُ في محلِّ جرٍّ.
          وقال ابنُ مالكٍ كما في ((القاموس)): لا يكونُ إلا اسمَ فعلٍ، ويؤيدُه كما في ((الفتح)) ما وقعَ في روايةِ عَقيلٍ وشعيبٍ: ((إيتَدُوا)) أي: تمهَّلُوا، وكذا عند مسلمٍ وأبي داودَ، وللإسماعيليِّ: ((فقالَ عمرُ: ايتَدْ)) بلفظِ الأمرِ للمفرَدِ.
          (أَنْشُدُكُمْ) بفتحِ الهمزةِ وضم الشِّين والكافِ وسكونِ ميم الجمع؛ أي: أسألُكم (بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ) أي: فوقَ رؤوسِكم بغيرِ عمَدٍ (وَالأَرْضُ) أي: على الماءِ تحت أقدامِكُم (هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ: لاَ نُورَثُ) أي: معاشِرَ الأنبياءِ.
          (مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) بالرفع، خبرُ المبتدأِ الذي هو: ((ما)) الموصولةُ، و((ترَكْنا)) صلتُه، والعائدُ محذوفٌ؛ أي: الذي تركناه صدقةٌ (يُرِيدُ) أي: بقولِه: ((لا نورَثُ، ما ترَكْنا صدقةٌ)) (رَسُولُ اللَّهِ صلعم نَفْسَهُ) أي: وكذا غيرُه من الأنبياءِ، لِما في النَّسائيِّ كما مرَّ: ((إنَّا _معشرَ الأنبياءِ_ لا نورَثُ)) فليسَ هذا الحكمُ خاصاً به عن الأنبياءِ خلافاً للحسَنِ البصريِّ، ولا يردُ قولُ زكريا عليه السلامُ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5، 6]، ولا قولُه تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل:16]؛ لأنَّ المرادَ ميراثُ النبوةِ والعلمِ والحكمةِ.
          (قَالَ الرَّهْطُ) أي: عثمانُ وأصحابُه (قَدْ قَالَ) أي: النبيُّ (ذَلِكَ) أي: ((لا نورَثُ...)) إلخ (فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ) أي: باللهِ، وثبتتِ الباءُ في بعضِ النُّسخِ، يقالُ: نشدتُكَ اللهَ وباللهِ، وسقط لفظُ الجلالةِ لأبي ذرٍّ (تَعْلَمَانِ) أي: هل تعلمانِ، كما ثبتَ في بعضِ النُّسخِ، ووقعَ في بعضٍ آخرَ: <أتعلمان> بالهمزة.
          (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ ذَلِكَ) وقوله: (قَالاَ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ) سقطَ لأبي ذرٍّ، ولمسلمٍ: ((قالا: نعم)).
          قال في ((الفتح)): ومعنى: ((أنشُدُكما)) أسألُكما رافعاً نشيدي؛ أي: صوتي.
          (قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ) أي: عن سببِ قولِه: ((لا نورَثُ)) (إِنَّ اللَّهَ) وفي بعضِ النُّسخِ زيادةُ: <╡>(قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صلعم فِي هَذَا الْفَيْءِ) بهمزة آخره (بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَداً غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ) أي: عمرُ.
          ({وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ}) أي: من أهلِ الكتابِ والمرادِ منهم (إِلَى قَوْلِهِ: {قَدِيرٌ}) وجملةُ الآيةِ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6].
          والمرادُ من الآيةِ: وما جعلَ اللهُ تعالى لرسولِه وأرجَعَه إلى نبيِّه صلعم من أموالِ بني النضيرِ شيءٌ لم تحصِّلُوه بالقتالِ والغلَبةِ، ولكن سلَّطَ اللهُ رسولَه عليهم وعلى أموالِهم كما كان يسلِّطُ رسُلَه على أعدائهم، فالأمرُ مفوَّضٌ إليه يضَعُه حيثُ يشاءُ، وهو معنى قولِه: فكانت هذه خالصةً لرسولِ اللهِ صلعم، ولا حقَّ لأحدٍ فيها، فكان يأخذُ منها نفقَتَه ونفقةَ أهلِه، ويصرِفُ الباقيَ في مصالحِ المسلمين.
          وفي روايةِ مسلمٍ: ((قالَ عمرُ ☺: إنَّ اللهَ خصَّ رسولَه بخاصةٍ لم يخصِّصْ بها أحداً غيرَه، قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} _ما أدري هل قرأ الآيةَ التي قبلَها أم لا_، فقسَمَ رسولُ الله صلعم بينَكم أموالَ بني النَّضيرِ، فواللهِ ما استأثرَ عليكم ولا أخذَها دونَكم حتى بقيَ هذا المالُ))، وكان رسولُ الله صلعم يأخذُ منه نفقتَه سَنةً، ثم يجعلُ ما بقيَ أسوةَ المالِ.
          تنبيه: قال العينيُّ: قولُه: ((ولم يعطِه أحداً غيرَه)) أي: لم يعطِ اللهُ الفيءَ أحداً غيرَ النبيِّ صلعم؛ لأنَّه خصَّصَ الفيءَ كلَّه له، كما هو مذهبُ الجمهورِ، أو جُلَّه كما هو مذهبُ الشافعيةِ، وقيل: أي حيثُ حلَّلَ الغنيمةَ له ولم تحِلَّ لسائرِ الأنبياءِ عليهم السلام.
          وقال القاضي: تخصيصُه بالفيءِ إمَّا كلُّه أو بعضُه، وهل في الفيءِ خُمسٌ أم لا؟ قال ابنُ المنذرِ: لا نعلمُ أحداً قبل الشافعيِّ قال بالخُمسِ فيه، انتهى / .
          وفي قوله: أو جُلَّه _أي: أكثرَه، كما هو مذهبُ الشافعيةِ_ شيءٌ؛ لأنَّ الذي للنبيِّ عليه السلامُ من الخُمسِ خمُسُه فقط عندهم، وقد كان له عليه الصلاةُ والسلامُ جميعُ الفيءِ أولاً، لآيةِ أولِ الأنفالِ، وللآيةِ المذكورةِ هنا، ثم نُسخَ ذلك بقولِه تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآيةَ، وبآيةِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] الآيةَ، فصارَ له خمُسُه فقط، يصرِفُه الإمامُ في المصالحِ العامةِ، وهذا مذهبُ الشافعيةِ الآنَ.
          وقال الجمهورُ: هو بعدَه للإمامِ، فتأمل.
          ولعلَّ مرادَ العينيِّ: في حياةِ النبيِّ عليه السلامُ إن ثبتَ أنَّ ما ذكرَه مذهبُ الشافعيةِ، ثم رأيتُه في ((الفتح)) قال: واختلفَ العلماءُ في مصرفِ الفيءِ، فقال مالكٌ: الفيءُ والخمُسُ سواءٌ، يُجعَلانِ في بيتِ المالِ، ويعطي الإمامُ أقاربَ النبيِّ صلعم بحسَبِ اجتهادِه، وفرَّقَ الجمهورُ بين خُمسِ الغنيمةِ وبين الفيءِ، فقال: الخُمسُ موضوعٌ فيما عيَّنَه اللهُ فيه من الأصنافِ المسمَّين في آيةِ الخُمُسِ من سورةِ الأنفالِ، لا يتعدَّى به إلى غيرِهم، وأما الفيءُ، فهو الذي يرجعُ النظرُ في مصرِفِه إلى رأيِ الإمامِ بحسَبِ المصلحةِ، وانفردَ الشافعيُّ _كما قال ابنُ المنذرِ وغيرُه_ بأنَّ الفيءَ يُخمَّسُ، وأنَّ أربعةَ أخماسِه للنبيِّ صلعم، وله خُمسُ الخُمسِ، كما في الغنيمةِ، وأربعةُ أخماسِ الخُمسِ المستَحَقِّ نظيرُها من الغنيمةِ.
          وقال الجمهورُ: مصرفُ الفيءِ كلِّه إلى رسولِ اللهِ صلعم، واحتجُّوا بقولِ عمرَ: فكانت هذه لرسولِ الله صلعم خاصةً، وتأوَّلَ الشافعيُّ قولَ عمرَ المذكورَ بأنَّه يريدُ الأخماسَ الأربعةَ.
          (فَكَانَتْ هَذِهِ) أي: أموالُ بني النَّضيرِ وخَيبرَ وفَدَكَ (خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلعم) أي: فلا حقَّ لأحدٍ فيها غيرَه، فكان ينفقُ منها نفقَتَه ونفقةَ أهلِه، ويصرفُ الباقيَ في مصالحِ المسلمين، وهذا مذهبُ الجمهورِ.
          وقالت الشافعيةُ: يقسَمُ الفيءُ خمسةَ أخماسٍ كالغنيمةِ، كما سبقَ مفصَّلاً، وحملُوا قولَ عمرَ هذا على أنَّ المرادَ الأخماسُ الأربعةُ.
          ولأبي داودَ عن ابنِ شهابٍ: كانت لرسولِ الله صلعم ثلاثُ صَفايا، بنو النَّضيرِ وخَيبرُ وفَدَكُ، فأمَّا بنو النَّضيرِ، فكانت حُبُساً لنوائبِه، وأمَّا فَدكُ، فكانت حُبُساً لأبناءِ السبيلِ، وأمَّا خَيبرُ، فجزَّأَها بين المسلمين، ثم قسمَ جزءاً لنفقةِ أهلِه، وما فضَلَ منه جعَلَه في فقراءِ المهاجرين، ولا تعارُضَ بينهما؛ لاحتمالِ أن يُقسَمَ في فقراءِ المهاجرين، وفي مشترى السلاحِ والكُراعِ، وذلك مفسِّرٌ لروايةِ معمَرٍ عند مسلمٍ، ويجعلُ ما بقيَ منه مَجعَلَ مالِ اللهِ.
          وزاد أبو داودَ في روايةِ أبي البَختَريِّ المذكورةِ: ((وكان ينفقُ على أهلِه ويتصدَّقُ بفضلِه))، وهذا لا يعارِضُ حديثَ عائشةَ: ((أنه صلعم توفِّيَ ودِرعُه مرهونةٌ على شَعيرٍ))؛ لأنَّه يُجمَعُ بينهما بأنه كان يدَّخِرُ لأهلِه قوتَ سنَتِهم، ثم في طولِ السنةِ قد يحتاجُ لمَنْ يطرُقُه إلى إخراجِ شيءٍ منه، فيُخرِجُه، فيحتاجُ إلى أن يعوِّضَ مَن يأخُذُ منها عِوضَه، فلذلك استدانَ.
          (وَاللَّهِ) ولأبي ذرٍّ: <وواللهِ> (مَا احْتَازَهَا) بحاء مهملةٍ ساكنةٍ وبزاي مفتوحةٍ، من الحِيازةِ _بكسرِ الحاء_، وهي الجمعُ، يقالُ: حازَ الشيءَ واحتازَه، جمعَه وضمَّه إليه، وللكُشميهنيِّ: <ما اختارَها> بالخاءِ المعجمةِ والراء، من الاختيارِ.
          (دُونَكُمْ، وَلاَ اسْتَأْثَرَ) بمثناة فوقيَّة مفتوحة فهمزة ساكنة فمثلثة مفتوحة؛ أي: ولا استقَلَّ (بِهَا عَلَيْكُمْ قَدْ أَعْطَاكُمُوهُ) أي: الفيءَ، وللكُشميهنيِّ: <أعطاكُموها> أي: أموالَ الفيءِ (وَبَثَّهَا) بالموحَّدة المفتوحةِ والمثلثة المشدَّدة المفتوحة؛ أي: فرَّقَها.
          (فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ) أي: مالُ بني النَّضيرِ (فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ) بفتحِ الميمِ والعين / المهملةِ بينهما جيم ساكنة.
          (مَالِ اللَّهِ) أي: في السلاحِ والكُراعِ ومصالحِ المسلمين، وهذا كما مرَّ لا يعارِضُه حديثُ عائشةَ: ((أنه صلعم توفِّيَ ودِرعُه مرهونةٌ على شعيرٍ)).
          (فَعَمِلَ) بكسرِ الميمِ (رَسُولُ اللَّهِ صلعم بِذَلِكَ حَيَاتَهُ) بالنصبِ على الظرفيةِ (أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ) بحرف الجرِّ.
          (هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ) ولأبي ذرٍّ: <أنشدُكما اللهَ> بإسقاط الجارِّ (هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ) ولم يذكُرْ هنا جوابَهما، وللمصنِّفِ في الفرائضِ: ((قالا: نعم)) (قَالَ عُمَرُ: ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ ╡ نَبِيَّهُ صلعم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ) أي: والي أمرِه، زاد مسلمٌ: ((فجِئتُما تطلُبُ ميراثَكَ من ابنِ أخيك، ويطلُبُ هذا ميراثَ امرأتِهِ من أبيها، فقال أبو بكرٍ: قال رسولُ الله صلعم: ما نورَثُ، ما تركناهُ صدقةٌ، فرأيتُماه كاذباً آثِماً غادِراً خائناً)).
          (فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ) بكسرِ الهمزة؛ أي: إنَّ أبا بكرٍ (فِيهَا) أي: في دعواه (لَصَادِقٌ بَارٌّ) بتشديدِ الراء؛ أي: صادقٌ أو نقيٌّ، وجمعُ الأولِ: أبرارٌ، وجمعُ الثاني: برَرةٌ، كذا في ((المصابيح))، فعلى المعنى الأوَّلِ يكونُ تأكيداً لـ((صادقٌ)).
          (رَاشِدٌ) أي: ليس بذي غَيٍّ (تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى) بتشديدِ الفاء المفتوحةِ (اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ) ((وليَّ)) بتشديدِ الياء، خبرُ كانَ، و((أنا)) تأكيدٌ للتاءِ (فَقَبَضْتُهَا) بفتحِ الموحَّدة وضم التاء؛ أي: فأخذتُها (سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي) بكسرِ الهمزةِ وتخفيف الميمِ (أَعْمَلُ) بفتحِ الهمزةِ والميمِ (فِيهَا) أي: في المذكورات.
          (بِمَا عَمِلَ) بكسرِ الميمِ (رَسُولُ اللَّهِ صلعم) أي: بمثلِ ما عملَ رسولُ الله صلعم (وَمَا عَمِلَ أَبُو بَكْرٍ فِيْهَا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي) بكسرِ الهمزةِ (فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي) بضمِّ الفوقيَّة وفتحِ الكافِ وكسرِ اللام المشدَّدة.
          وجملةُ: (وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ) حاليةٌ، كقولِهِ: (وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ، جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ) هو: محمدٌ صلعم، وأخو العبَّاسِ: عبدُ اللهِ (وَجَاءَنِي هَذَا) وقولُه: (يُرِيدُ عَلِيّاً) من كلامِ البخاريِّ أو غيرِه.
          وجملةُ: (يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ) أي: حصَّةَ فاطمةَ ♦ (مِنْ أَبِيهَا) عليه السلام (فَقُلْتُ لَكُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ: لاَ نُورَثُ) بفتحِ الراء.
          (مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ. فَلَمَّا بَدَا) أي: ظهرَ (لِي أَنْ أَدْفَعَهُ) أي: هذا المالَ (إِلَيْكُمَا قُلْتُ) بضمِّ التاء (إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا) أنَّثَ ضميرَ: ((دفعتُها)) باعتبارِ أنَّ المالَ أرضٌ أو صدقةٌ (عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ) بالنصب عطفاً على اسمِ: ((أنَّ))
          قوله: (لَتَعْمَلاَنِ) بفتحِ اللام في جوابِ: ((أنَّ عليكما عهدَ اللهِ))، فافهم.
          (فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلعم، وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا) بفتحِ الواو وكسر اللام المخففة، ويجوزُ في: ((ولِيتُها)) ضم الواو وتشديد اللام (فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا. فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، فَأَنْشُدُكُمْا) بضمِّ الشِّين والتثنية، وفي بعضِ النُّسخِ: بميم الجمعِ بناءً على أنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان، أو أرادَهما والرَّهطَ فقط، ويدلُّ له قولُه: ((قال الرَّهطُ: نعم))، وكذا ضميرُ الغيبةِ في: <إليهما> على ما في بعضِ النُّسخِ.
          (بِاللَّهِ) بحرف الجر (هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكمَا) بكاف الخطاب (بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ) أي: عثمانُ وأصحابُه (نَعَمْ. ثُمَّ أَقْبَلَ) أي: عمرُ (عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالاَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَلْتَمِسَانِ) بهمزة الاستفهام المقدرة؛ أي: أفتَطلُبانِ.
          (مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ / ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ) أي: بغيرِ عمَدٍ (وَالأَرْضُ) أي: بإذنِه تقومُ على الماءِ (لاَ أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ) عند أبي داودَ: ((واللهِ لا أقضِي بغيرِ ذلك حتى تقومَ السماءُ)) (فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ) بتشديد الياء (فَإِنِّي أَكْفِيكُمَاهَا).
          تنبيه: استَشكلَ الخطَّابيُّ هذه القصةَ بأنَّ عليًّا وعبَّاساً إذا كانا قد أخذا هذه من عمرَ على شريطةِ أن يتصرَّفا فيها كما تصرَّفَ فيها صلعم والخليفَتانِ بعده، وعلِما أنه صلعم قال: ((لا نورَثُ، ما ترَكْنا صدقةٌ))، فإن كانا سمِعاه من النبيِّ صلعم، فكيف يطلُبانِه من أبي بكرٍ؟ وإن كانا سمِعاه من أبي بكرٍ أو في زمَنِه بحيثُ أفادَ عندهما العلمَ بذلك، فكيف يطلُبانِ ذلك من عمرَ؟
          وأُجيبَ بأنَّهما اعتَقدا أنَّ عمومَ قولِه: ((لا نورَثُ)) مخصوصٌ ببعضِ ما يخلِّفُه دونَ بعضٍ، وأمَّا مخاصَمةُ عليٍّ وعبَّاسٍ بعد ذلك، فلم تكُنْ في شأنِ الميراثِ، بل في ولايةِ الصدقةِ وصَرفِها كيف تُصرَفُ، وعورِضَ بقولِه في آخرِ الحديثِ في روايةِ النَّسائيِّ: ((ثم جئتُماني الآنَ تختَصِمانِ، يقولُ هذا: أريدُ نصيبي من ابنِ أخي، ويقولُ هذا: أريدُ نصيبي من امرأتي، واللهِ لا أقضي بينَكما إلا بذلك)) أي: بما تقدَّمَ من تسليمِهما على سبيلِ الولايةِ، انتهى.
          وقد يقالُ: لا يستَلزِمُ ذلك كونَه ميراثاً، بل يجوزُ أن يكونَ على سبيلِ الاستحقاقِ بغيرِه، ويؤيِّدُه ما في ((السُّننِ)) لأبي داودَ وغيرهِ: ((أرادا أن يقسِما بينهما)) فينفرِدَ كلٌّ منهما بنظَرِ ما يتولَّاه، فامتنَعَ عمرُ من ذلك، وأرادَ أن لا يقعَ عليها اسمُ قسمةٍ، ولذلك أقسَمَ على ذلك.
          قال في ((الفتح)): وعلى هذا اقتصرَ أكثرُ الشُّرَّاحِ واستَحسنُوه، وفيه من النظرِ ما تقدَّمَ، وأعجَبُ من ذلك جزمُ ابنِ الجوزيِّ ثم النوويِّ بأنَّ علياً وعباساً لم يطلُبا من عمرَ إلا ذلك، مع أنَّ السِّياقَ صريحٌ في أنهما جاءا مرتَينِ في طلبِ شيءٍ واحدٍ، لكن العذرُ لابنِ الجوزيِّ والنَّوويِّ أنَّهما شرحا اللَّفظَ الواردَ في ((مسلمٍ)) دونَ ((البخاريِّ)).
          قال: وأمَّا قولُ عمرَ: ((جئتني يا عباس تسَلُني نصيبَك من ابنِ أخيك))، فإنَّما عبَّرَ بذلك لبيانِ قِسمةِ الميراثِ كيف يُقسَمُ إن لو كان هناك ميراثٌ، لا أنَّه أرادَ الغضَّ منهما بهذا الكلامِ، انتهى.
          قال في حديثِ عمرَ: إنه يجبُ أن يولَّى أمرَ كلِّ قبيلةٍ كبيرُهم؛ لأنَّه أعرفُ باستحقاقِ كلِّ رجلٍ منهم، إلى آخرِ ما في ((فتحِ الباري)).