الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث علي: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر

          3091- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ): بفتحِ العينِ وسكونِ الموحَّدة، لقبُ عبدِ الله بنِ عُثمانَ بنِ جَبَلَةَ _بفتحات_ الأزْديِّ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ): أي: ابنُ المبارَكِ، قال: (أَخْبَرَنَا يُونُسُ): أي: ابنُ يزيدَ الأَيليُّ (عَنِ الزُّهْرِيِّ): هو: محمدُ بنُ مسلمِ بنِ شهابٍ (قَالَ: أَخْبَرَنِي): بالإفرادِ (عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ): تصغيرُ: حَسَنٍ _بفتحتين_، وعليٌّ هذا هو زينُ العابدين (أَنَّ حُسَيْنَ): بضمِّ الحاء (بْنَ عَلِيٍّ): أي: ابنِ أبي طالبٍ (☻): وفي نسخةٍ: <عليهما السلام> (أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا): أي: والدَه (قَالَ: كَانَتْ): ولابنِ عساكرَ: <كان> بغير تاء التأنيثِ؛ لوجودِ الفاصلِ في قولِه: (لِي شَارِفٌ): بالشِّين المعجمةِ وكسرِ الراء وبالفاء؛ هي: المسِنَّةُ من النُّوقِ، ولا تُقالُ للذكَرِ عند الأكثرِ، وحكى إبراهيمُ الحربيُّ عن الأصمعيِّ جوازَه، قاله في ((الفتح)).
          (مِنْ نَصِيبِي مِنَ المَغْنَمِ): أي: الغنيمةِ (يَوْمَ بَدْرٍ): متعلِّقٌ بـ((المغنَمِ)) (وَكَانَ النَّبِيُّ صلعم أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الخُمُسِ): أي: أخرى من خُمسِ الغنيمةِ.
          استَشكلَ هذا الكلامَ ابنُ بطالٍ، فقال ما حاصلُه: قولُ عليٍّ: ((أعطاني النبيُّ شارِفاً من الخُمُسِ)) يعني: يومَ بدرٍ، وظاهرُه أنَّ الخُمسَ كان يومَ بدرٍ، قال: ولم يختلِفْ أهلُ السِّيرِ أنَّ الخُمسَ لم يكُنْ يومَ بدرٍ، وذكرَ إسماعيلُ القاضي في غزوةِ بني قُريظةَ أنه قيل: إنَّها أولُ يومٍ فُرضَ فيه / الخُمسُ، قال: وقيل نزلَ بعد ذلك، قال ابنُ بطالٍ: ولم يأتِ في ذلك من الحديثِ ما فيه بيانٌ شافٍ، وإنما جاءَ صريحاً في غنائمِ حُنينٍ، وهي آخرُ غنيمةٍ حضرَها رسولُ الله صلعم قال: وإذا لم يُختلَفْ في أنَّ الخُمسَ لم يكُنْ يومَ بدرٍ، فيَحتاجُ قولُ عليٍّ هنا إلى تأويلٍ لا يعارِضُ قولَ أهلِ السِّيرِ، فيحتملُ أن يكونَ معناه: ((أعطاني شارِفاً من الخُمسِ)) أي: من خُمسِ المغنَمِ الذي من سريَّةِ عبدِ الله بنِ جحشٍ.
          فقد ذكرَ ابنُ إسحاقَ أنَّ النبيَّ صلعم بعثَه في رجَبٍ في السنةِ الثانيةِ من الهجرةِ بعد بدرٍ الأولى في سريَّةٍ إلى نخلةٍ بين مكةَ والطائفِ، فوجدَ بها قريشاً، فقتلُوهم وأخذُوا العيرَ.
          وقال ابنُ جحشٍ لأصحابِه: إنَّ لرسولِ اللهِ صلعم مما غنِمْنا الخُمسَ، وذلك قبل أن يُفرضَ الخُمسُ، فعزلَ لرسولِ اللهِ خُمسَ العيرِ، وقسمَ باقيها بين أصحابِه، ثم فرضَ اللهُ قسمةَ الغنائمِ على وفقِ ما صنعَ ابنُ جَحشٍ، ثم خرجَ رسولُ الله في رمضانَ بعد هذه السريةِ إلى بدرٍ، فقُتلَ فيها من صناديدِ الكفارِ ما قُتلَ، وغنِمَ ما معهم، انتهى.
          واعترضه في ((الفتح)) فقال: ويعكِّرُ عليه أنَّ في الروايةِ الآتيةِ في ((المغازي)): ((وكان النبيُّ أعطاني مما أفاءَ اللهُ من الخُمسِ يومئذٍ)) قال: والعجَبُ أنَّ ابنَ بطالٍ عزا هذه الروايةَ لأبي داودَ، وجعلَها شاهدةً لِما تأوَّلَه، وغفَلَ عن كونِها في ((البخاريِّ)) الذي شرَحَه، وعن كونِ ظاهرِها شاهداً عليه لا له، قال: ولم أقِفْ على ما نقلَه عن أهلِ السِّيرِ صريحاً في أنَّه لم يكُنْ في غنائمِ بدرٍ خُمسٌ، قال: والعجبُ أنه ثبَتَ في غنيمةِ السريةِ التي قبل بدرٍ الخمُسُ ويقولُ: إنَّ الله رضيَ بذلك، وينفيه يومَ بدرٍ مع أنَّ الأنفالَ التي فيها التصريحُ بفرضِ الخُمسِ نزلَ غالبُها في قصةِ بدرٍ.
          وجزمَ الداوديُّ الشارحُ بأنَّ آيةَ الخُمسِ نزلَتْ يومَ بدرٍ، قال السُّبكيُّ: نزلَتِ الأنفالُ في بدرٍ وغنائمِها، والذي يظهرُ أنَّ آيةَ قسمةِ الغنيمةِ نزلت بعد تفرِقةِ الغنائمِ؛ لأنَّ أهلَ السِّيرِ نقَلُوا أنه عليه السلامُ قسمَها على السواءِ وأعطاها لمَن شهِدَ الواقعةَ أو غابَ لعذرٍ تكرُّماً منه؛ لأنَّ الغَنيمةَ كانت أولاً بنصِّ سورةِ الأنفالِ للنبيِّ، قال: _أي: السُّبكيُّ_ ولكن يعكِّرُ على ما قال أهلُ السِّيرِ حديثُ عليٍّ؛ يعني: حديثَ البابِ، فإنه ظاهرٌ في أنَّه كان فيها خُمسٌ، انتهى، فتأمله. فإنه يُمكنُ الجوابُ عن بعضِ ذلك.
          وقوله: (فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ): بفتحِ تاء: ((أبتَني)) (بِفَاطِمَةَ): أي: أدخُلَ بها (بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم، وَاعَدْتُ): بألف المفاعلةِ، جوابُ: ((لمَّا)) (رَجُلًا): قال في ((الفتح)): لم أقِفْ على اسمِه (صَوَّاغًا): بفتحِ الصَّاد المهملةِ وتشديد الواو؛ أي: صائغاً، لكن وقَعَ في الشُّربِ: ((طابعٌ)) بموحدة، و((طالعٌ)) بلام.
          قال في ((الفتح)): أي: مَن يدُلُّه ويسَاعدُه، قال: وقد يقالُ: إنه اسمُ الصَّائغِ المذكورِ، ذكرَه بعضُهم، قال: وفيه بُعدٌ.
          (مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ): بفتحِ القافينِ وضمِّ النونِ وقد تفتحُ وتكسرُ وسكونِ التحتية قبلها، قبيلةٌ من اليهودِ، أو شعبٌ منهم كانوا بالمدينةِ، وهو ممنوعٌ من الصرفِ، ويجوزُ صرفُه.
          وقال العينيُّ: هو مركَّبٌ من: قَين الذي هو الحدَّادُ، وقاعٍ: اسمُ أُطُمٍ من آطامِ المدينةِ، انتهى.
          (أَنْ يَرْتَحِلَ): بكسرِ الحاءِ المهملةِ وبفتحِ المثنَّاة التحتية (فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ): بكسرِ الهمزةِ والخاء المعجمةِ وسكونِ الذَّال المعجمةِ، وهو: نبتٌ طيبُ الرائحةِ (أَرَدْتُ): بضمِّ التاء للمتكلم وحدَه، والجملةُ: صفةُ: ((إِذْخِرٍ))، أو مستأنفةٌ (أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ): جمع: صوَّاغٍ، مفعولٌ أولُ لـ((أبيعَه)) (وَأَسْتَعِينَ): بالعطفِ على: ((أبيعَه)) المنصوبِ بـ((أن)) المصدريةِ (بِهِ): أي: بالإذخِرِ؛ أي: بثمنِه (فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي): بضمِّ / العين المهملةِ وسكونِ الراء، طعامُ الوَليمةِ، كما قاله الجوهريُّ، والوَليمةُ: طعامُ الزِّفافِ.
          وفي ((المُغرِب)): ((العُرسُ)) بالضمِّ: اسمٌ، ومنه: ((إذا دُعيَ أحدُكم إلى وَليمةِ عُرْسٍ فليُجِبْ)) أي: إلى طعامِ أعراسٍ، ويقالُ: أعرَسَ الرجلُ إعراساً؛ إذا بنى بأهلِه، وأعرَسَ: إذا غشيَها، والعِرسُ _بكسرِ العين_: امرأةُ الرجلِ، وينبغي أن يُقرأَ هنا _بكسرِ العين_؛ لئلَّا يكونَ المعنى: وليمةِ وليمَتي، ولا معنى له، إلا أن جعَلتَ الإضافةَ بيانيةً.
          قال العينيُّ ومَن تبِعَه: والوليمةُ تُسمَّى عُرساً باسمِ سببِه، انتهى، فليتأمَّل.
          (فَبَيْنَا): بغير ميم (أَنَا أَجْمَعُ): بسكونِ الجيمِ وفتح الميمِ، ويجوزُ تشديدُ الميمِ وضم الهمزةِ (لِشَارِفَيَّ): أي: لناقتيَّ _بتشديد الياء_، تثنيةُ: شارفٍ، وتُجمعُ على: شُرُفٍ _بضمتين_، لكنه قليلٌ، كما قال عياضٌ (مَتَاعًا مِنَ الأَقْتَابِ): ((من)) بيانيةٌ لـ((متاعاً)) الذي هو مفعولُ: ((أجمعُ))، والأقتابُ: جمعُ: قَتَبٍ _بالقاف والمثنَّاة الفوقيَّة_، كسَبَبٍ وأسبابٍ، معروفٌ للإبلِ (وَالغَرَائِرِ): بفتحِ الغين المعجمةِ ورائين بينهما ألف، جمعُ: غِرارةٍ _بكسرِ الغين_، كما في ((المصباح)) و((القاموس))، فقولُ الكرمانيِّ: والغرائرُ: جمعُ: الغَرارةِ _بفتحِ المعجمةِ وبالراء المكررة_ ظَرفُ التِّبنِ ونحوِه، انتهى. فيه نظرٌ إن أرادَ: بفتحِ المعجمةِ؛ أي: في المفرَدِ، فتأمل.
          وهو: ما يوضَعُ فيه الشيءُ من التِّبنِ وغيرِه.
          (وَالحِبَالِ): بكسرِ الحاءِ المهملةِ، جمعُ: حَبلٍ _بفتحها_ معروفٌ، وجملةُ: (وَشَارِفَايَ مُنَاخَتَانِ): حاليةٌ، و((مُناخانِ)) بضمِّ الميمِ وبالخاءِ المعجمةِ والتذكيرِ، وللأربعةِ: ((مناختانِ))؛ لأنَّ التأنيثَ باعتبارِ معنى: شارِفٍ، والتَّذكيرَ باعتبارِ لفظِه (إِلَى جَنْبِ): بسكونِ النونِ، بمعنى: جانب (حُجْرَةِ رَجُلٍ): قال في ((الفتح)): لم أقفْ على اسمِه.
          وقوله: (مِنَ الأَنْصَارِ): صفةُ: ((رجلٍ)) (رَجَعْتُ): جوابُ: ((بَينا))، ولأبوَي ذرٍّ والوقتِ وابنِ عسَاكرَ: <فرجَعتُ> بالفاء (حِينَ): أي: وقتَ (جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ): بضمِّ التاء في الفعلين، و((ما)) موصولةٌ أو موصوفةٌ (فَإِذَا شَارِفَايَ قَدْ اجْتُبَّ): بالبناءِ للمفعولِ وتشديد الموحَّدة وسكونِ تاء التأنيث؛ أي: قُطعَت (أَسْنِمَتُهُمَا): جمعُ: سَنامٍ _بفتحِ السِّين المهملةِ_، قال القسطلانيُّ: وفي ((اليونينيَّةِ)) مصحَّحٌ: <قد أُجِتُبَّ> بضمِّ الهمزةِ وكسر الجيم وضم الفوقيَّة وتشديد الموحَّدة، مصحَّحٌ عليها علوًّا وسفلاً، فليتأمل ويحرَّرْ.
          ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: <جُبَّتْ> بحذفِ الهمزةِ وضمِّ الجيم.
          (وَبُقِرَتْ): بضمِّ الموحَّدة وكسرِ القافِ الخفيفةِ وفتحِ الراء وسكونِ التاء؛ أي: وشُقَّتْ (خَوَاصِرُهُمَا): جمعُ: خاصِرةٍ _بالخاء المعجمةِ_ معروفةٌ (وَأُخِذَ): بالبناءِ للمفعولِ (مِنْ أَكْبَادِهِمَا): جمعُ: كبدٍ، معروفٌ (فَلَمْ): بالفاءِ، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: <ولم> (أَمْلِكْ): بكسرِ اللام (عَيْنَيَّ): بالتثنيةِ وتشديد المثنَّاة التحتيَّة؛ أي: من البكاءِ عليه (حِينَ): بالنون، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهَنيِّ: <حيثُ> بالمثلثة (رَأَيْتُ): أي: أبصَرتُ (ذَلِكَ المَنْظَرَ): بفتحِ الميمِ والظاء المعجمةِ، اسمٌ لمكانِ النظرِ إليهما (مِنْهُمَا): أي: من شارِفَيَّ، سقطَ لابنِ عساكرَ.
          تنبيه: قال الكرمانيُّ وتبِعُوه: إنما كان بكاؤه خوفاً من توهُّمِ تقصيرِه في حقِّ فاطمةَ، أو في حقِّ تأخُّرِ الابتِناءِ بها بسببِ ما فاتَ منه ما يُستَعانُ به، لا لأجلِ فَواتِ الشارِفَينِ؛ لأنَّ متاعَ الدُّنيا قليلٌ، ولا سيَّما عند أمثالِه ☺، انتهى.
          وقد يقالُ: ما وقعَ منه قهْريٌّ بحسَبِ الطبعِ البشريِّ مع شدَّةِ حاجتِهِ إليهما، أو يقالُ: بكاؤه على ما حصلَ لهما من التعذيبِ والتشويهِ بهما، فليتأمَّل.
          (فَقُلْتُ): أي: لمَنْ كان في حُجرةِ الرجلِ الأنصاريِّ، أو لغيرِه ممَّن اتفقَ حضورُه عندهما (مَنْ فَعَلَ هَذَا؟): أي: الفعلَ الشنيعَ من الجَبِّ / والبَقْرِ وأخذِ المذكوراتِ (فَقَالُوا: فَعَلَ): أي: هذا (حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ): فـ((فعلَ)) ماضٍ، ومفعولُه محذوفٌ، و((حمزةُ)) فاعلُه، ويجوزُ جعلُ: ((فعل)) مصدراً مضافاً لـ((حمزة)) خبراً لمحذوفٍ؛ أي: هذا فِعلُ حمزةَ.
          وفي الجوابِ بما ذُكرَ إشارةٌ إلى أنَّ السؤالَ وإن كان جملةً اسميةً في الظاهرِ، فهو في قوةِ الفعليةِ؛ كأنه قيل: أفعَلَ هذا الفعلَ حمزةُ أو غيرُه؟
          وجملةُ: (وَهُوَ فِي هَذَا البَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنَ الأَنْصَارِ): حاليةٌ، و((شَرْبٍ)) بفتحِ الشِّين المعجمةِ وسكونِ الراء وبموحدة، الجماعةُ المجتمعون في مكانٍ على شُربِ الخمرِ، وهو اسمُ جمعٍ لشاربٍ عند سيبَوَيهِ، وجمعٌ له عند الأخفَشِ، كصَحْبٍ وصاحِبٍ.
          (فَانْطَلَقْتُ): بضمِّ التاء (حَتَّى أَدْخُلَ): برفع: ((أدخُلَ)) ونصبِهِ، فالنصبُ بأن مضمرةٍ على جعلِ: ((حتى)) جارةً، والرفعُ على أنها عاطفةٌ أو ابتدائيةٌ، وعبَّرَ بالمضَارعِ مبالغةً في استحضَارِ صُورةِ الحالِ، وإلا فالظاهرُ أن يقولَ: حتى دخلتُ.
          (عَلَى النَّبِيِّ صلعم وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ): ☻، والجملةُ حاليةٌ (فَعَرَفَ): بفتحِ الراء (النَّبِيُّ صلعم فِي وَجْهِي): أي: بظهورِ أثرِ الغضَبِ فيه.
          وقوله: (الَّذِي لَقِيتُ): مفعولُ: ((عرفَ))، و((لقِيتُ)) بكسرِ القافِ، صلةُ: ((الذي))؛ أي: من فعلِ حمزةَ المذكورِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: مَا لَكَ؟): أي: أيُّ شيءٍ حصلَ لك؟ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ): بضمِّ التاء (كَاليَوْمِ): أي: مثلَ اليومِ في الفظاعةِ (قَطُّ): أي: فيما مضى من عمري.
          وقوله: (عَدَا...): إلخ، مستأنفةٌ، وهو بالعين والدَّال المهملتين، وفي بعضِ الأصولِ: بالغين المعجمةِ؛ أي: ذهبَ (حَمْزَةُ): أي: ابنُ عبدِ المطلبِ (عَلَى شارِفيَّ): بالتثنية والشِّين المعجمةِ، مثنًّى، وفي كثيرِ من الأصولِ: <ناقتَيَّ> بالتثنيةِ أيضاً (فَأَجَبَّ): بفتحِ الهمزةِ والجيم والموحَّدة المشددة، ولأبي ذرٍّ عن الكشميَهنيِّ: <فجَبَّ> بلا همزة؛ أي: فقطعَ (أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ): بفتحات؛ أي: وشَقَّ (خَوَاصِرَهُمَا): ولم يذكُرْ قولَه أولاً: ((وأخَذَ من أكبادِهما)) (وَهَا): مقصورٌ للتنبيهِ (هُوَ): أي: حمزةُ (ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ): بفتحِ الشِّين وسكونِ الراء؛ أي: جماعةٍ مجتمعون لشُربِ الخمرِ.
          زاد في روايةِ ابنِ جُريجٍ عن ابنِ شهابٍ: ((في الشَّربِ، وحمزةُ بنُ عبدِ المطَّلبِ يشربُ في ذلك البيتِ _أي: الذي أناخَ الشارِفَينِ بجانبِه_ ومعه قَيْنةٌ _بفتحِ القافِ، هي: الجاريةُ المغنِّيةُ_، فقالت:
ألا يا حمزُ للشُّرُفِ النِّواءِ)).
          ((الشُّرُف)) بضمِّ الشِّين والراء، جمعُ: شارِفةٍ، و((النِّواء)) بكسرِ النون، ممدودٌ، جمعُ: ناويةٍ، وهي: الناقةُ السِّمينةُ.
          قال في ((الفتح)): وحكى المرزُبانيُّ في ((معجَمِ الشُّعراءِ)) أنَّ هذا الشِّعرَ لعبدِ الله بنِ السائبِ بنِ أبي السائبِ المخزوميِّ، جدِّ أبي السائبِ المخزوميِّ المدَنيِّ، قال: وبقيَّتُه:
.......................                     وهنَّ مُعقَّلاتٌ بالفِناءِ
ضعِ السكِّينَ باللَّبَّاتِ منها                     وضرَّجَهنَّ حمزةُ بالدِّماءِ
وعجَّلَ من أطايبِها لشَرْبٍ                     قديداً من طَبيخٍ أو شِواءِ
          (فَدَعَا النَّبِيُّ صلعم بِرِدَائِهِ، فَارْتَدَى): أي: به (ثُمَّ انْطَلَقَ): أي: ذهبَ النبيُّ عليه السلامُ (يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ): بتشديد المثنَّاة الفوقيَّة (أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ): أي: مشَينا خلفَه، وهذا على سبيلِ النادرِ، فلا يُنافي أنَّه كان يقدِّمُ أصحابَه ليبقى ظهرُه خالياً لمشيِ الملائكةِ (حَتَّى جَاءَ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ): أي: النبيُّ في الدخولِ (فَأَذِنُوا لَهُمْ): أي: لرسولِ اللهِ / ومَن معه، وفي بعضِ الأصولِ: <له> (فَطَفِقَ): بكسرِ الفاء؛ أي: فجعَلَ (رَسُولُ اللَّهِ صلعم يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ): أي: في شارِفَيَّ، ولابنِ جُريجٍ: ((فدخَلَ على حمزةَ فتغيَّظَ عليه)).
          (فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ): بفتحِ المثلثة وكسرِ الميم؛ أي: سكِرَ (مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ): ((عيناه)): فاعلُ: ((محمَرَّةً)) الواقعِ حالاً بسببِ السُّكرِ (فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم، ثُمَّ صَعَّدَ): بفتحِ الصَّاد وتشديد العين المهملتين (النَّظَرَ): أي: رفعَ نظرَه (فَنَظَرَ): أي: حمزةُ (إِلَى رُكْبَتِهِ): بالإفرادِ، ولأبي ذرٍّ: <ركبتَيه> بالتثنية (ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ): بضمِّ السِّين المهملةِ وتشديد الراء؛ أي: إلى سُرَّةِ النبيِّ صلعم (ثُمَّ صَعَّدَ): بتشديد العين المفتوحة (النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ): أي: للنبيِّ عليه السلام (هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي؟): أي: كعبيدٍ له، يريدُ _والله أعلمُ_ أنَّ عبدَ اللهِ وأبا طالبٍ كانا كأنَّهما عبدانِ لعبدِ المطَّلبِ في الخضوعِ لحُرمتِه، والجدُّ يُدعى سيداً، وأنه أقرَبُ إليه منهما، فأرادَ الافتخَارَ عليهم بذلك، ولابنِ جُريجٍ: ((هل أنتم إلا عبيدٌ لآبائي)) بالجمعِ.
          (فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ): أي: سكِرَ (فَنَكَصَ): أي: رجَعَ (رَسُولُ اللَّهِ صلعم عَلَى عَقِبَيْهِ): بالتثنيةِ (القَهْقَرَى): أي: رجوعَ القهقرَى، فهو مفعولٌ مطلقٌ مبيِّنٌ للنَّوعِ؛ لأنَّ القهقرَى هي الرُّجوعُ إلى خلفٍ مع توجُّهِهِ إلى أمامِهِ، وكأنَّه عليه السلامُ فعَلَ ذلك خشيةَ أن يزدادَ عبَثُه في حالِ سُكرِه، فينتقِلَ من القولِ إلى الفعلِ، فأرادَ أن يكونَ ما يقعُ منه بمرأًى منه؛ ليدفَعَه إن وقعَ منه شيءٌ.
          (وَخَرَجْنَا مَعَهُ): أي: معَ النبيِّ صلعم، والجملةُ معطُوفةٌ على جملةِ: ((فنكصَ))، أو حالٌ من رسولِ اللهِ بتقديرِ: قد، وكان ذلك قبل تحريمِ الخمرِ كمَا في روايةِ ابنِ جُريجٍ عن ابنِ شهابٍ في الشُّربِ، ولذا لم يؤاخِذْ عليه السلامُ حمزةَ.
          ويؤخَذُ منه بقولِه أنَّ مَن تداوَى بمُباحٍ، أو شرِبَ لبناً، أو أكلَ طعاماً، فسَكِرَ، فقذَفَ غيرَه، فهو كالمجنُونِ والمغمى عليه والصَّبيِّ، فلا يؤاخَذُ بما فعلَه، إلا في إتلافِ الأمْوالِ، فإنه يضمَنُ.
          وحكى الطَّحاويُّ الإجماعَ على أنَّ مَن سكِرَ من ذلك لا طلاقَ عليه، وهو مذهبُنا أيضاً، حتى لو سكِرَ مُكرَهاً عندنا فكذلك، وأما ضمَانُ إتلافِ الناقتَينِ، فهو لازمٌ لحمزةَ لو طالَبَه عليٌّ به؛ إذ العلماءُ متفقونَ على أنَّ جِناياتِ الأموالِ لا تسقُطُ عن المجانينِ وغيرِ المكلَّفينِ، ويلزَمُهم ضمانُها في كلِّ حالٍ كالعقلاءِ.
          تنبيه: في زيادةِ ابنِ جُريجٍ قولُه: ((وذلك قبلَ تحريمِ الخمرِ)) ردٌّ على مَن احتجَّ بقصَّةِ حمزةَ على أنَّ طلاقَ السَّكرانِ لا يقَعُ، فإنه إذا عُرفَ أنَّ ذلك كان قبل تحريمِ الخمرِ، كان تركُ المؤاخَذةِ لكونِه لم يُدخِلْ على نفسِهِ الضررَ، والذي يقولُ: يقعُ طلاقُ السَّكرانِ، يحتجُّ بأنه أدخَلَ على نفسِهِ السُّكرَ، وهو محرَّمٌ عليه، فعوقِبَ بإيقاعِ الطلاقِ عليه، فليسَ في هذا الحديثِ حجَّةٌ لإثباتِ ذلك ولا لنَفيِه.
          وفي الحديثِ فوائدُ كثيرةٌ، ولذا قال أبو داودَ: سمعتُ أحمدَ بنَ صالحٍ يقولُ: في هذا الحديثِ أربعٌ وعشرون سنَّةٌ، وقال في ((الفتح)): وفيه أنَّ الغانمَ يُعطى من الغنيمةِ من جهتَينِ؛ من الأربعةِ أخماسٍ بحقِّ الغَنيمةِ، ومن الخُمسِ إذا كان ممَّن له فيه حقٌّ، وأنَّ لمالكِ / النَّاقةِ الانتِفاعَ بها في الحملِ عليها.
          وفيه: الإناخةُ على بابِ الغيرِ إذا عُرفَ رضَاه بذلك وعُدمَ تضرُّرُه به، وأنَّ البكاءَ الذي يجلِبُه الحزنُ غيرُ مذمومٍ، وأنَّ المرءَ قد لا يملِكُ دمعَه إذا غلَبَ عليه الغَيظُ.
          وفيه: ما رُكِّبَ في الإنسانِ من الأسَفِ على فَوتِ ما فيه نفعُه وما يحتاجُ إليه، وفيه أنَّ استِعداءَ المظلومِ على مَن ظلَمَه وإخبارَه بما ظُلمَ به خارجٌ عن الغِيبةِ والنَّميمةِ المحرَّمتَينِ.
          وفيه: قَبولُ خبرِ الواحدِ، وجوازُ الاجتمَاعِ في الشُّربِ المباحِ، وجوازُ تناولِ ما يوضَعُ بين أيدي القومِ، وجوازُ الغِناءِ بالمباحِ من القولِ، وإنشادِ الشعرِ والاستمَاعِ له من الأمَةِ، والتخيُّرِ فيما يأكلُه، وأكلِ الكبِدِ وإن كانت دماً.
          وفيه أنَّ السُّكرَ كان مبَاحاً في صَدرِ الإسلامِ، وهو يردُّ على مَن زعَمَ أنَّ السُّكرَ لم يُبَحْ قطُّ، ويمكنُ حملُ ذلك على السُّكرِ الذي يُفقَدُ معه التَّمييزُ من أصلِه، وفيه: مشروعيةُ وَليمةِ العُرسِ، وسيأتي شرحُها في النِّكاحِ، ومشروعيةُ الصياغةِ والتكسُّبِ بها، وجوازُ جمعِ الإذخِرِ وغيرِه من المبَاحاتِ، والتكسُّبِ بذلك، وقد تقدَّمَ في أواخرِ الشُّربِ.
          وفيه: الاستعانةُ في كلِّ صناعةٍ بالعَارِفِ بها، قال المهلَّبُ: وفيه أنَّ العادةَ جرَتْ بأنَّ جنايةَ ذوي الرحِمِ مغتَفَرةٌ، قال في ((الفتح)): وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ابنَ أبي شيبةَ روى عن أبي بكرِ بنِ عيَّاشٍ أنَّ النبيَّ صلعم أغرَمَ حمزةَ ثمنَ الناقتَينِ.
          وفيه: علَّةُ تحريمِ الخمرِ، وفيه أنَّ للإمامِ أن يَمضيَ إلى بيتِ مَن بلَغَه أنه على مُنكَرٍ ليُغيِّرَه، وغيرُ ذلك.
          وفيه: دليلٌ على صحةِ تذكيةِ الغَاصبِ؛ لأنَّ الظاهرَ أنه ما بقَرَ خواصِرَهما وجَبَّ أسنِمَتَهما إلا بعد التَّذكيةِ المعتَبَرةِ، وفيه: سنَّةُ الاستئذانِ في الدُّخولِ، وأنَّ الإذنَ للرئيسِ يشمَلُ أتبَاعَه؛ لأنَّ زيدَ بنَ حارثةَ وعلياً دخلا من غيرِ استئذانٍ تَبعاً لرسولِ الله صلعم.
          وفيه أنَّ السَّكرانَ يُلامُ إذا كان يعقِلُ اللَّومَ، وأنَّ للكبيرِ في بيتِه أن يُلقيَ نحوَ ردائه في بيتِه، وفي بعضِ هذه الاستنباطاتِ نظرٌ، وقد أطالَ ابنُ بطَّالٍ الكلامَ.