الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من لم يخمس الأسلاب

          ░18▒ (باب مَنْ لَمْ يُخَمِّسِ) بكسرِ الميم المشدَّدة (الأَسْلاَبَ) بفتحِ الهمزةِ وسكون السِّين المهملة، جمعُ: سلَبٍ _بفتحتين_، وهو: ما على القتيلِ المحاربِ الكَافرِ من ثيابٍ؛ كقَميصٍ ورداءٍ وسلاحٍ ومركوبٍ وإن قاتَلَ راجلا،ً وآلتِه كسَرْجٍ ولِجامٍ ورَسَنٍ، ويقالُ له: مقودٌ، ويدخُلُ في الثيابِ ونحوِها ما كان لزينةٍ؛ لأنه متصلٌ به وتحتَ يدِه؛ كمِنطَقةٍ وسِوارٍ وهِميانٍ، وما فيه من دراهمَ وغيرِها، لا حقيبةٍ على الفرَسِ، ولا ما فيها من دراهمَ وغيرِها؛ كأمتِعتِه المخلَّفةِ في خيمتِه مثَلاً.
          وعن أحمدَ: لا تدخلُ الدابةُ، وفي قولٍ للشافعيِّ: يختصُّ السلَبُ بأداةِ الحربِ، وتقدمَ الكلامُ على ذلك بأبسطَ في باب الحربيِّ إذا دخلَ دارَ الإسلامِ بغيرِ أمانٍ.
          (وَمَنْ قَتَلَ) بجرِّ: ((مَن)) الموصولةِ أو النكِرةِ الموصوفةِ محلاً عطفاً على محلِّ: ((مَن)) السابقةِ المضافِ إليها: ((باب)) (قَتِيلاً) مفعولُ: قُتلَ، والمرادُ به: مَن سيصيرُ قتيلاً، فهو مَجازٌ أوليٌّ؛ كقولِه تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:36].
          وقال الكرمانيُّ: فإن قلتَ: كيف يُتصوَّرُ قتلُ القتيلِ وهو تحصيلُ الحاصلِ؟ قلتُ: المرادُ من القتيلِ هو المشارِفُ للقتلِ، نحو: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] أي: الضالِّينَ الصَّائرين إلى التَّقوى، أو هو للقتيلِ بهذا القتلِ المستفَادِ من لفظِ: ((قتَلَ)) لا بقتلٍ سابقٍ؛ ليَلزَمَ تحصِيلُ الحاصلِ، انتهى، فتأمَّله.
          وجملةُ: (فَلَهُ سَلَبُهُ) جوابُ: ((مَن)) الثانيةِ الشرطيةِ، فهي في محلِّ جرٍّ بها، وهذا بعضُ حديثٍ وصلَه المصنفُ في البابِ وزادَ من تفقُّهِه.
          قوله: (مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسَ) بتشديدِ ميم: ((يخمَّسَ)) المبنيِّ للمفعولِ، والجارُّ والمجرورُ حالٌ من: ((سلَبُه)) أو من ضميرِه العائدِ إليه، ونائبُ فاعلِ: ((يخمَّسَ)) ضميرٌ يرجِعٌ إلى السلَبِ، وجوَّزَ القسطلانيُّ كسرَ الميمِ، ففاعلُ الفعلِ يرجعُ إلى الإمامِ، ومفعولُه ضميرٌ محذوفٌ يرجِعُ إلى السلَبِ، ولأبي ذرٍّ: <من غيرِ الخُمسِ> بـ((الـ)) وضم الخاء المعجمة، ولابنِ عسَاكرَ: <من غيرِ خُمسٍ> بالتنكير.
          (وَحُكْمِ الإِمَامِ فِيهِ) أي: في السَّلَبِ لا في الخُمُسِ، و((حُكمِ)) بالجر معطوفٌ على: ((مَنْ)).
          تنبيه: ما ذُكرَ في الترجمةِ من أنَّ السَّلَبَ للقاتلِ، وأنه لا يُخمَّسُ هو مذهبُ الجمهورِ، كما في ((الفتح))، قال العينيُّ: وبه قال الشافعيُّ وأحمدُ وابنُ جَريرٍ وجماعةٌ من أهلِ الحديثِ، سواءٌ شرَطَه الإمامُ / للقاتلِ أم لا.
          وعن المالكيةِ والحنفيةِ: لا يستحِقُّه القاتلُ إلا إن شرَطَه له الإمامُ، وعن مالكٍ أنه يخيَّرُ الإمامُ بين أن يُعطيَه القاتلَ أو يُخمِّسَه، واختاره القاضي إسماعيلُ، وعن إسحاقَ: يُخمَّسُ الأسلابُ إذا كثُرَت، وهو مرويٌّ عن عمرَ بنِ الخطَّابِ ☺.
          وقال مكحولٌ والثوريُّ والأوزاعيُّ: يخمَّسُ مطلَقاً، وهو قولٌ عن مالكٍ وروايةٌ عن ابنِ عباسٍ، وقال ابنُ قُدامةَ: قال أحمدُ: لا يعجِبُني أن يأخُذَ القاتلُ السلَبَ إلا بإذنِ الإمامِ، وهو قولُ الأَوزاعيِّ، واحتجَّ القائلون بالتخميسِ مطلَقاً بعمومِ قولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] الآيةَ، واحتجَّ الجمهورُ بنحوِ قولِه عليه السلام: ((مَن قتَلَ قتيلاً فله سلَبُه))، فإنه مخصِّصٌ لعمومِ الآيةِ.
          وتُعقِّبَ بأنه عليه الصلاةُ والسلامُ لم يقُلْه إلا يومَ حُنينٍ، وأجاب الشافعيُّ وغيرُه بأنَّ ذلك حُفظَ عن النبيِّ صلعم في مواضِعَ منها يومَ بدرٍ، كما في البابِ، ومنها في أُحدٍ، كما أخرجَه البيهقيُّ من حديثِ حاطبِ بنِ أبي بلتَعةَ: ((أنه قتَلَ رجلاً يومَ أُحدٍ، فدفَعَ النبيُّ صلعم له سلَبَه)).
          ومنها حديثُ جابرٍ: ((أنَّ عَقيلَ بنَ أبي طالبٍ قتَلَ رجلاً يومَ مؤتةَ، فنفَّلَه النبيُّ صلعم سلَبَه)) فكانَ هذا مقرَّراً عند الصحابةِ، كما روى مسلمٌ عن عوفِ بنِ مالكٍ في قصَّتِه مع خالدِ بنِ الوليدِ وإنكارِه عليه أخْذَه السلَبَ من القاتلِ... الحديثَ.
          وكما روى الحاكمُ والبيهقيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ: ((أنَّ عبدَ الله بنَ جحشٍ قال يومَ أُحدٍ: تعالَ بنا ندعو، فدعا سعدٌ فقال: اللهم ارزُقْني رجلاً شديداً بأسُه، فأقاتِلُه ويقاتِلُني، ثم ارزُقْني عليه الظفَرَ حتى أقتُلَه وآخُذَ سلَبَه...)) الحديثَ.
          وكما روى أحمدُ بإسنادٍ قويٍّ عن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ قال: ((كانت صفيَّةُ بنتُ عبدِ المطَّلبِ في حِصنِ حسَّانَ بنِ ثابتٍ يومَ الخندَقِ))، وذكرَ الحديثَ في قتلِها اليهوديَّ وقولِها لحسانَ: ((انزِلْ فاسلُبْه، فقال: ما لي بسلَبِه حاجةٌ)).
          وكما روى ابنُ إسحاقَ في قصةِ قتلِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ لعمرِو بنِ عبدِ وُدٍّ يومَ الخندقِ أيضاً، فقال له عمرُ: ((هلَّا استلَبتَ دِرعَه، فإنه ليس للعربِ خيرٌ منها، فقال: إنه اتَّقاني بسَوأتِه))، وأمَّا قولُ النبيِّ صلعم يومَ حُنينٍ: ((مَن قتَلَ قتيلاً فله سلَبُه))، فإنما قاله بعد الفراغِ من القتالِ، ولذا قال مالكٌ: يُكرهُ للإمامِ أن يقولَ ذلك إلا بعد الفراغِ؛ لئلَّا تضعُفَ نيَّاتُ المجتهِدين، وقال غيرُه: لا يُكرَهُ ذلك، سواءٌ قاله قبل الحربِ أو بعدها أو في أثنائها، أشارَ إلى ذلك في ((الفتح)).
          وأقولُ: في قولِه: وتُعقِّبَ... إلخ نظرٌ؛ لأنَّ كونَه أن لا يكونَ قالَه إلا يومَ حُنينٍ مرَّةً لا يقدَحُ في الاستدلالِ به.