الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {فأن لله خمسه وللرسول}

          ░7▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ وابنِ عساكرَ: <╡> بدلَ: ((تعالى))؛ أي: بابُ بيانِ معنى قولِ اللهِ تعالى: ({فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}) بفتحِ همزةِ: {أَنَّ} الناصبةِ للاسمِ الرافعةِ للخبرِ، فـ{خُمُسَهُ} اسمُها مؤخَّرٌ، و{للهِ} خبرُها مقدَّمٌ، والمصدرُ المنسَبِكُ منها ومن اسمِها وخبرِها مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ؛ أي: فكونُ خُمسِ الغنيمةِ للهِ... إلخ، ثابتٌ، ولعل هذا مرادُ البيضاويِّ بقولِه: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ؛ أي: فثابتٌ أنَّ للهِ خمسَه، انتهى.
          وقال الخَفاجيُّ: وقَدَّرَ الخبرَ مقدَّماً لأنَّ المطَّردَ في خبرِها إذا ذُكرَ تقديمُه لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّها مكسورةٌ، فأُجريَ على المعتادِ فيه، وقال: ومنهم مَن أعربَه خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: فالحكمُ أنَّ للهِ... إلخ، انتهى.
          وضميرُ: {خُمُسَهُ} يرجعُ إلى: {شَيْءٍ} من قولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} ولو ذكرَ المصنفُ صدْرَ الآيةِ لَكانَ أَولى، كما قيل في: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا}، ويجوزُ جعلُ المصدرِ المذكورِ فاعلاً لمحذوفٍ؛ أي: فثبَتَ أنَّ الخُمسَ لله...إلخ، ودخلتِ الفاءُ في خبرِ: {أنَّ} الأولى؛ لأنَّ اسمَها: {مَا} الموصُولةُ فيه معنى الشرطِ، والعائدُ محذوفٌ؛ أي: واعلمُوا أنَّ الذي غنِمتُموه، وبيَّنَه بقولِه: {مِنْ شَيْءٍ}، ونكَّرَه ليشمَلَ القليلَ والكثيرَ.
          وقال في ((الكشاف)): {مَا} موصولةٌ، و{مِنْ شَيْءٍ} بيانُه، قيل: من شيءٍ حتى الخيطِ والمَخيطِ {فَأَنَّ لِلَّهِ} مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ تقديرُه: فحقٌّ، أو فواجبٌ أنَّ للهِ خُمسَه.
          وروى الجُعْفيُّ عن أبي عمرٍو: ▬فإن للهِ↨ بالكسر، ويؤيِّدُه قراءةُ النَّخَعيِّ: ▬فللهِ خُمسُه↨ والمشهورُ أوكدُ وأثبَتُ للإيجابِ، كأنه قيل: فلا بدَّ من إثباتِ الخُمسِ فيه، ولا سبيلَ إلى الإخلالِ به والتفريطِ فيه من حيثُ أنه إذا حُذفَ الخبرُ واحتمَلَ غيرُ واحدٍ من المقدَّراتِ كقولِه: ثابتٌ واجبٌ حقٌّ لازمٌ، وما أشبَهَ ذلك، كان أقوى لإيجابِه من النصِّ على واحدٍ، وقُرئَ: ▬خُمْسَه↨ بالسكون، انتهى.
          والجمهورُ على أنَّ ذِكرَ اللهِ للتعظيمِ، كما في قولِه تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62]، وعليه فيُقسَمُ الخُمسُ على الخمسةِ المذكورين في قولِه تعالى:
          ({وَلِلرَّسُولِ...}) إلخ، وسقط لأبي ذرٍّ لفظُ: <{وللرَّسولِ}> لكنه مرادٌ، واللامُ للمِلكِ، خلافاً لكثيرين ومنهم المصنِّفُ حيثُ قال: (يَعْنِي: لِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ) بفتحِ قافِ: ((قَسْمَ))، وفي بعضِ الأصُولِ: <قِسمةَ> بكسرها وزيادة تاء، نسبَ إليه نسبةَ اختِصاصٍ بحسَبِ القسمةِ على ما يراه، وليس للغانمين فيه حقٌّ، بل يقسِمُه رسولُ الله صلعم على الأصنافِ الأربعةِ أو على غيرِهم، على ما يؤدِّي إليه اجتهادُه، وكذا الأئمةُ بعده.
          وقال الكرمانيُّ: يعني: أنَّ للرسولِ قِسمتَه، لا أنَّ سهماً منه له. وقال شارحُ ((التراجم)): مقصودُ البخاريِّ: ترجيحُ قولِ مَن قال: إنَّ النبيَّ عليه السلامُ لم يملِكْ خُمسَ / الخُمسِ، وإنما كان إليه قَسمُه فقط، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): هذا اختيارٌ من المصنِّفِ لأحدِ الأقوالِ في تفسيرِ هذه الآيةِ، والأكثرُ على أنَّ اللامَ في قولهِ: {وَلِلرَّسُولِ} للمِلكِ، وأنَّ للرسولِ خُمسَ الخُمسِ من الغنيمةِ، سواءٌ حضَرَ القتالَ أو لم يحضُرْ، وهل كان يملِكُه أم لا؟ وجهان للشافعيةِ، ومال البخاريُّ إلى الثاني، واستدلَّ له.
          قال إسماعيلُ القاضي: لا حُجَّةَ لمنِ ادَّعى أنُّ الخُمسَ يملِكُه النبيُّ صلعم بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]؛ لأنه تعالى قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] واتفقوا على أنه فرضَ الخُمسَ، كان يعطي الغنيمةَ للغانمين بحسَبِ ما يؤدِّي إليه اجتهادُه، فلما فُرضَ الخُمسُ تبيَّنَ أنَّ للغانمينَ أربعةَ أخماسِ الغنيمةِ، لا يشاركُهم فيها أحدٌ، وإنما خُصَّ النبيُّ صلعم بنسبةِ الخُمسِ إليه إشارةً إلى أنه ليس للغانمين فيه حقٌّ، بل هو مفوَّضٌ إلى رأيِه، وكذلك إلى الإمامِ بعده، قال: وأجمعُوا على أنَّ اللامَ في قولِه تعالى: {لِلَّهِ} للتبرُّكِ، إلا ما جاء عن أبي العاليةِ، فإنه قال: تُقسَمُ الغنيمَةُ خمسةَ أسهمٍ، ثم السهمُ الأولُ يقسَمُ قسمَين، قسمٌ لله، وهو للفقراءِ، وقسمُ الرسولِ له، وأما مَنْ بعده فيضَعُه الإمامُ حيثُ يراه، انتهى.
          وأقولُ: اختلفَ النقلُ عن أبي العاليةِ، فقال البيضاويُّ: ذهبَ أبو العاليةِ إلى ظاهرِ الآيةِ، وقال: يقسَمُ ستَّةَ أقسامٍ، ويصرَفُ سهمُ اللهِ إلى الكعبةِ؛ لِما رويَ أنه عليه السلامُ كان يأخُذُ منه فيضَعُه، فيجعلُها للكعبةِ، ثم يقسمُ ما بقيَ على خمسةٍ، وقيل: سهمُ اللهِ لبيتِ المالِ، وقيل: هو مضمومٌ إلى سهمِ رسولِ الله صلعم، وحكمُه بعده عليه السلامُ باقٍ، غيرَ أنَّ سهمَ الرسولِ صلعم يصرَفُ إلى ما كان يصرَفُ إليه من مصَالحِ المسلمين، كما فعلَه الشَّيخان، وقيل: إلى الإمامِ، وقيل: إلى الأصنافِ الأربعةِ.
          وقال أبو حنيفةَ: سقَطَ سهمُه عليه السَّلام وسهمُ ذوي القُربى بوفاتِه، وصار الكلُّ يصرَفُ إلى الثلاثةِ الباقيةِ، وعن مالكٍ: الأمرُ فيه مفوَّضٌ إلى رأيِ الإمامِ يصرِفُه إلى ما يراه أهمَّ، انتهى.
          وأقول: نقلَ الخَفاجيُّ عن ابنِ الهُمامِ أنَّ محلَّ صرفِ سهمِ اللهِ إلى الكعبةِ إذا كانت قريبةً، وإلا فيُصرَفُ إلى مسجدِ كلِّ بلدةٍ وقعَ فيها الخُمسُ؛ يعني: أنَّ غرَضَ المصنِّفِ من هذا البابِ _كما قال ابنُ بطَّالٍ_ الردُّ على مَن جعَلَ للنبيِّ خُمسَ الخُمسِ مِلكاً؛ كالشافعيِّ استدلالاً بآيةِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال:41] إلخ، لجوازِ أن تكونَ النسبةُ إلى الرسولِ، والقولُ بأنَّ سهمَ اللهِ تعالى مضمومٌ إلى سهمِ رسولِه عليه السَّلامُ، فهما واحدٌ، مرويٌّ كما قاله العَينيُّ عن ابنِ عباسٍ ☻، وبهِ قال إبراهيمُ النخَعيُّ والحسنُ بنُ محمدِ ابنِ الحنفيَّةِ والحسنُ البَصريُّ والشعبيُّ وعطاءُ بنُ أبي رباحٍ وقتادةُ وآخرون.
          وقال العينيُّ أيضاً: ثم اختلَفَ القائلون بهذا القولِ، فروى عليُّ بنُ أبي طالبٍ عن ابنِ عباسٍ، قال: كانتِ الغنيمةُ تقسَمُ على خمسةِ أقسامٍ، فأربعةٌ منها بين مَن قاتلَ عليها، وخُمسٌ واحدٌ يقسَمُ على أربعةِ أخماسٍ، فرُبعٌ للهِ وللرسولِ، فما كان للهِ وللرسولِ، فهو لقَرابةِ رسولِ الله صلعم، ولم يأخُذِ النبيُّ صلعم من الخُمسِ شيئاً.
          وروى ابنُ أبي حاتمٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ بُريدةَ في قولِه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} فأنَّ الذي للهِ فلنَبيِّه، والذي للرسولِ فلأزواجِه. وعن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ: خُمسُ اللهِ ورسولِه واحدٌ، يتحمَّلُ منه رسولُ الله صلعم ويصنَعُ فيه ما يشاءُ. وقال آخرون: يتصرَّفُ الإمامُ في الخُمسِ بالمصلحةِ / للمسلمين كما يتصرَّفُ في مالِ الفيءِ، وهذا قولُ مالكٍ وأكثرِ السلَفِ، ثم قال: وقيل: إنَّ الخُمسَ جميعَه لذوي القربى، وأطالَ بما تقدَّمَ بعضُه، وقد استدلَّ البخاريُّ لِما ادَّعاه وترجمَ به بقولِه تعليقاً:
          (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ وَاللَّهُ يُعْطِي) ليس هذا بجملتِه حديثاً واحداً هكذا، ولذا قال في ((الفتح)): لم يقَعْ هذا اللفظُ في سياقٍ واحدٍ، وإنما هو مأخوذٌ من حديثَينِ، أمَّا حديثُ: ((إنما أنا قاسمٌ)) فهو طرفٌ من حديثِ أبي هريرةَ المذكورِ في الباب، وتقدَّمَ في العلمِ أثناءَ حديثِ معاويةَ بلفظِ: ((وإنما أنا قاسمٌ، واللهُ يُعطي)).
          وأمَّا حديثُ: ((إنما أنا خازنٌ، والله يُعطي)) فهو طرفٌ من حديثِ معاويةَ المذكورِ، وسيأتي موصولاً في الاعتصامِ بهذا اللفظِ، انتهى.
          وذكرَ العينيُّ أنَّ أبا داودَ أسنَدَه عن أبي هريرةَ بلفظِ: ((إنْ أنا إلا خازنٌ، أضَعُ حيثُ أُمرتُ))، انتهى.
          وأقول: لعلَّ البخاريَّ وقَفَ على هذا الحديثِ مسنَداً أو معلَّقاً باللفظِ الواقعِ هنا، وسيأتي الكلامُ على هذا الحديثِ المعلَّقِ.