الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما ذكر من درع النبي وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه

          ░5▒ (باب مَا ذُكِرَ) بالبناءِ للمفعولِ؛ أي: وردَ في الأحاديثِ أو غيرِها؛ أي: بيانِ ما ذُكرَ (مِنْ دِرْعِ) بكسرِ الدَّال المهملةِ (النَّبِيِّ صلعم وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ) اعلم أنَّ: ((دِرعَ)) وما بعده مفرَدٌ مضافٌ، فيعُمُّ، فلا يُنافي تعدُّدَ كلِّ واحدٍ منها، أمَّا الدِّرعُ؛ فهو _بكسرِ الدَّال المهملةِ وسكونِ الراء وبالعين المهملةِ_.
          قال في ((المصباح)): دِرعُ الحديدِ مؤنَّثةٌ في الأكثرِ، وتصغَّرُ على: دُرَيعٍ بغيرِها على غيرِ قياسٍ، وجازَ التصغيرُ على لغةِ مَن ذكَّرَ، وربَّما قيل: دُرَيعةٌ _بالهاء_، وجمعُها: أَدرُعٌ ودُروعٌ وأَدراعٌ، وتقدَّمَ هناك في كتابِ الجهادِ في بابِ ما قيل في دِرعِ النبيِّ صلعم عددُ دُروعِه.
          وذكرَ في ((المواهب)) أنَّها سبعةٌ، وعدَّها بأسمائها، وأمَّا عصاه، فقد ذكرُوا أنه كانت له مِخصَرةٌ تُسمَّى العُرجونَ، وهي كالقَضيبِ يستعمِلُها الأشرافُ للتشاغُلِ بها في أيديهم، ويجلون بها ما بعُدَ عن البدَنِ من اليدِ، وأمَّا سيفُه؛ فقال العينيُّ: الظاهرُ أنَّ هذا السيفَ هو ذو الفَقارِ؛ لأنَّ سِبطَ ابنِ الجَوزيِّ ذكرَ في ((تاريخه)): ولم يزَلْ ذو الفَقارِ عنده صلعم حتى وهبَه / لعليٍّ ☺ قبل موتِه، ثم انتقَلَ إلى عليٍّ ☺، وكانت له عشَرةُ أسيافٍ منها ذو الفَقارِ، تنفَّلَه يومَ بدرٍ، انتهى.
          وقال القسطلانيُّ في ((المواهب)): كان له عليه السلام تسعةُ أسيافٍ، وعدَّها بأسمائها، وأمَّا قَدَحُه؛ فقال في ((المواهب)): كان له قَدَحٌ يسمَّى: الريَّانَ، وآخرُ يسمَّى: مُغيثاً، وقد ضبَّبَ بسِلسلةٍ من فضةٍ في ثلاثِ مواضعَ، وآخرُ من عيدانٍ، وآخرُ من زجاجٍ.
          وأما خاتمُه: فقد ذكرُوا أنه كان من فضَّةٍ، وكان فصُّه منه، وسيأتي قريباً أنه منقوشٌ: محمدٌ رسولُ اللهِ.
          وقال في ((المواهب)): كان له خاتَمٌ من حديدٍ ملوِيٌّ عليه بفضَّةٍ، وخاتمٌ فضَّةٍ فصُّه منه كان يجعَلُه في يمينِه، وقيل: كان أولاً في يمينِه، ثم حوَّلَه إلى يسارِه، وهو _بفتحِ المثنَّاة الفوقيَّة وكسرها_، وفيه لغاتٌ.
          قال في ((القاموس)): الخاتمُ: ما يوضَعُ على الطِّينةِ وعلى الإصبَعِ؛ كالخاتمِ والخَيتامِ والخاتامِ والخَتْمِ والخايتامِ، والجمعُ: خواتِمُ وخواتيمُ.
          (وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ) بالمد، جمعُ: خليفةٍ (بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ) أي: مما ذُكرَ من عصاه والثلاثةِ بعده، وهو متعلِّقٌ بـ((استَعمَلَ))، أو بيانٌ لِما استعمَلَ الخلفاءُ بعده.
          كقوله: (مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ) بالبناء للمفعول، ولأبي ذرٍّ: <ما لم تُذكَرْ> بحذف: ((من)) الجارَّةٍ، ويُذكرُ بالفوقيَّة، وكذا للكُشميهَنيِّ، لكنَّه بالتحتيةِ.
          (قِسْمَتُهُ) نائبُ فاعلٍ يُذكَرُ بوجوهِه، وجملةُ: ((لم تُذكَرْ قِسمتُه)) صلةُ: ((ما)) أو صفتُها، وجملةُ: ((استَعملَ...)) إلخ، المبنيُّ فِعلُها للفاعلِ صلةُ: ((ما)) أو صفتُها المعطوفةُ على: ((دِرعِ))، أو على: ((ما)).
          وقال الكرمانيُّ: ((قِسمَتُه)) أي: لا على طريقةِ قِسمةِ الصدقاتِ؛ إذ لا خفاءَ أنَّ المرادَ منها قَسمُ التَّرِكاتِ، انتهى.
          وقوله: (وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ وَآنِيَتِهِ) عطفٌ على: ((من ذلك))، أو على: ((من دِرعِ))، ((وآنيتِه)) _بمدِّ الهمزةِ_، جمعُ: إناءٍ.
          قال في ((الفتح)): ذِكرُها بعد القَدَحِ من عطفِ العامِّ على الخاصِّ، انتهى.
          وقال العينيُّ: وأمَّا آنيتُه فكثيرةٌ، ذكرَها أصحابُ السِّيرِ، منها: قِدْرٌ من حجارةٍ يُدعى المخَضَّبَ، ومخضب آخر من شَبهٍ يكونُ فيه الحِنَّاءُ والكَتَمُ يُطلَى به رأسُه إذا وَجدَ فيه حَراً، وكان له مِغسَلٌ من صفرٍ، وكانت له رَكْوةٌ تُسمَّى الصادرةَ، وكان له طَسْتٌ من نحاسٍ وقَدَحٌ من زجاجٍ، وكانت له جَفنةٌ عظيمةٌ يطعمُ فيها الناسَ، يحمِلُها أربعةُ رجالٍ، تسمَّى: الغرَّاءَ، انتهى.
          و((شعَرِه)): بفتحِ العين وسكونها، و((نعلِه)) بسكونها لا غيرُ، و((آنيتِه)) بمدِّ الهمزة، جمعُ: إناءٍ، وبالمد.
          وقوله: (مِمَّا يبَرَّكُ أَصْحَابُهُ) بفتحِ التحتية والموحَّدة وتشديد الراء من: ((يبَرَّكُ))، ولأبي ذرٍّ عن الحمَويِّ والمستملي: <مما يتَبرَّكُ> بزيادة فوقيَّة مفتوحة قبل الموحَّدة، من باب التفعُّلِ، وعليهما فهو من البركةِ، وحُذفَ العائدُ للعلمِ به.
          ومقتضى كلامِ ((الفتح)) أنَّ حذفَ العائدِ روايةُ الأَصيليِّ، وأنَّ إثباتَه لغيرِه، فإنه قال: قولُه: ((مما تبَرَّكَ أصحابُه)) أي: به، وحذفُه للعلمِ به، كذا للأصيليِّ، انتهى.
          ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: <مما يتبرَّكُ فيه> بدلَ: به، كذا ضبطَ القسطَلانيُّ.
          وأقول: في ضبطِه: ((يبَرَّكُ)) بفتحِ التحتية مع تشديد الراء شيءٌ؛ إذ حقُّ التحتيةِ الضمُّ؛ لأنه من بابِ: فعَّلَ _مشدَّدِ العينِ_ إلا أن يُقالَ: إنَّ أصلَه على هذا أيضاً: يَتبرَّكُ، ثم حُذفتِ الفوقيَّة، فتأمل.
          ولو قُرئَ: تَبَرَّكَ _بفتحِ الفوقيَّة أوله فموحدة كذلك وبراء مشددة_ لَكانَ ظاهراً، وعلى كلٍّ فـ((أصحابُه)) فاعلٌ، وفي بعضِ النُّسخِ: <مما شَرِكَ> بفتحِ الشِّين المعجمةِ وكسر الراء مخففة، من الشرِكةِ، وعزاها الحافظُ ابنُ حجرٍ لأبي ذرٍّ عن شيخَيه _يعني: الحمويَّ والمستمليَّ_، وهو يخالفُ ما تقدَّمَ في كلامِ القسطلانيِّ، ولعلَّ لأبي ذرٍّ روايتَين عن شيخَيه المذكورَين / .
          وقال في ((الفتح)) أيضاً: وفي روايةِ الكُشميهَنيِّ: <مما يتبرَّكُ به أصحابُه> وهو يقوِّي رواية الأصيليِّ، انتهى.
          وليُتأمَّلْ هذا مع قولِ الزركشيِّ في ((التنقيح)) قولُه: <مما يتَبرَّكُ به> هو من: البركةِ، كذا للقابسيِّ، وثبت عند الأَصيليِّ: <مما يشركُ> بالشِّين المعجمةِ، من: الشرِكةِ.
          قال القاضي: وهو ظاهرٌ بقولِه قبلَه: ((مما لم تُذكَرْ قسمتُه))، لكن ِالأولُ أظهرُ، انتهى.
          واستظهرَ الباجيُّ هذا الوجهَ أيضاً لما ذكرَه القاضي، والحاصلُ أنَّ النُّسخَ والرواياتِ مختلفةٌ، ومثلُ هذا يقعُ في تراجمِ البخاريِّ كثيراً.
          وقوله: (وَغَيْرُهُمْ) بالرفع، عطفٌ على: ((أصحابُه))، وضميرُ: ((هم)) لأصحابِه، أو للخلفاءِ، وقوله:(بَعْدَ وَفَاتِهِ) متعلقٌ بـ((استعملَ)).
          واعلم أنَّ هذه الترجمةَ كما قال العينيُّ مشتملةٌ على تسعةِ أجزاءٍ، وفي البابِ ستةُ أحاديثَ، الأولُ فيه ذكرُ الخاتمِ، الثاني فيه ذكرُ النعلِ، والثالثُ فيه ذِكرُ الكِساءِ الملبَّدِ، والرابعُ فيه ذكرُ القَدَحِ، والخامسُ فيه ذِكرُ السيفِ، والسادسُ فيه ذِكرُ الصدقةِ التي كان ذِكرُها في الصحيفةِ، ولم يُذكرْ فيه ما يطابقُ دِرعَه، ولا ما يُطابقُ عصاه، ولا ما يُطابقُ شعَرَه، ولا ما يُطابقُ آنيتَه، انتهى.
          ثم قال بعد ذلك: وأما شعَرُه، ففي ((مسلمٍ)): ((أنَّ الحلَّاقَ لمَّا حلقَ للنبيِّ جعَلَ يعطيه الناسَ))، وفي ((مسند أحمدَ)) عن أنسٍ قال: ((رأيتُ رسولَ اللهِ صلعم والحلاقُ يحلِقُه، وقد أطافَ به أصحابُه ما يريدون أن تقَعَ شعرةٌ إلا في يدِ رجلٍ)).
          وقال في ((الفتح)) وغيرِه: الغرضُ من هذه الترجمةِ تحقيقُ أنه صلعم لم يورَثْ، ولا بيعَ ما خلَّفَه، بل تُركَ بيدِ مَن صارَ إليه للتبرُّكِ به، ولو كان يورَثُ لا بِيعَ أو قُسمَ، ولهذا قال المصنفُ: ((مما لم تُذكَرْ قسمتُه))، وقال المهلَّبُ: ترجمَ البخاريُّ بهذه الترجمةِ ليتأسَّى به ولاةُ الأمورِ في اتِّخاذِ هذه الآلاتِ.
          وقال في ((الفتح)): فيه نظرٌ، وما تقدَّمَ أَولى، وهو الأليقُ لدخولِه في أبوابِ الخُمسِ، انتهى.
          أي: من قولِه: الغرضُ من هذه الترجمةِ... إلى آخرِ ما قدمناه.
          وأقولُ: عبارةُ ابنِ بطالٍ نقلاً عن المهلَّبِ لفظُها: إنما ذكرَ هذه الآياتِ كلَّها في هذا البابِ لتكونَ سنَّةً للخلفاءِ في الختمِ، واتخاذِ الخاتَمِ لِما يُحتاجُ إليه فيه، واتخاذِ السيفِ والدِّرعِ أيضاً للحربِ، وأما الشعَرُ، فإنَّما استعمَلَه الناسُ على سبيلِ التبرُّكِ به من النبيِّ خاصةً، وليس ذلك من غيرِه بتلك المنزلةِ، وكذلك النعلانِ من بابِ التبرُّكِ أيضاً، وليس لأحدٍ في ذلك مزيَّةُ رسولِ الله صلعم، انتهت.
          وقال قبل ذلك: واتفاقُ الأمَّةِ بعد النبيِّ صلعم أنه لم يملِكْ أحدٌ دِرعَه ولا عصاه وسيفَه وقَدَحَه وخاتَمَه ونعلَه، يدُلُّ على أنَّهم فهِموا من قولِه: ((لا نورَثُ، ما ترَكْنا صدقةٌ)) أنه عامٌّ في صغيرِ الأشياءِ وكبيرِها، فصار هذا إجماعاً معصوماً؛ لأنه لا يجوزُ على جماعةِ الصحابةِ الخطأُ في التأويلِ، وهذا ردٌّ على الشيعةِ الذين ادَّعَوا أنَّ أبا بكرٍ الصديقَ وعمرَ بنَ الخطابِ حرَما فاطمةَ والعباسَ ميراثَهما من النبيِّ صلعم.
          قال: وقد روى الطبريُّ أنَّ أبا إسحاقَ قال لأبي جعفرٍ: أرأيتَ علياً حين ولِيَ العراقَ وما كان بيدِه من سلطانِه كيف صنَعَ في سهمِ ذوي القُربى؟ قال: سلَكَ به واللهِ طريقَ أبي بكرٍ وعمرَ، انتهى.
          وقال الكرمانيُّ شارحُ التراجمِ: قصدَ البخاريُّ بيانَ نفقةِ أزواجِ النبيِّ صلعم، وبيانَ ما جاءَ في بيوتِ أزواجِه، وبيانَ ما جاء في دِرعِه أنه لا يورَثُ؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهن استقلَّتْ بمسكنِها وبما كان عندها وفي يدِها، / ولو كان ميراثاً لَما فعلَتْه، ولا وافقَهنَّ الصحابةُ، ولَطالبت كلٌّ حصَّتَها مما في يدِ الأخرى، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): ذكرَ البخاريُّ في البابِ أحاديثَ ليس فيها مما ترجَمَ به، إلا الخاتمَ والنعلَ والسيفَ، انتهى.
          وفيه أنه ذكَرَ أيضاً القَدَحَ في الحديثِ الرابعِ، وقد اعترفَ بهذا بعدُ فقال: ولم يذكُرْ من الآنيةِ سوى القَدَحِ، وفيه كفايةٌ لأنَّه يدلُّ على ما عداه، انتهى.
          وقال في ((الفتح)) أيضاً: وذكرَ في البابِ الكِساءَ والإزارَ ولم يصرِّحْ بهما في الترجمةِ، ومما ذكرَه في الترجمةِ ولم يُخرِجْ حديثَه في البابِ الدِّرعُ، ولعله أراد أن يكتُبَ فيه حديثَ عائشةَ: ((أنه صلعم توفِّيَ ودِرعُه مرهونةٌ)) فلم يتفِقْ له ذلك، وسبقَ في البيوعِ والرَّهنِ، ومما ذكرَه في الترجمةِ: العصا، ولم يقَعْ لها ذكرٌ في أحاديثِ البابِ، ولعله أراد أن يكتُبَ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ: ((أنَّه صلعم كان يستلِمُ الرُّكنَ بمِحجَنٍ))، وسبقَ في الحجِّ، وسيأتي في تفسيرِ سورةِ الليلِ ذِكرُه المِخصَرةَ، وأنه عليه السلامُ جعَلَ ينكُثُ بها في الأرضِ، وهي عصًا يُمسِكُها الكبيرُ يتَّكئُ عليها، وكان قضيبُه عليه السلام من شَوحَطٍ، وكانت عند الخلفاءِ بعده حتى كسرَها جَهْجاهٌ الغِفاريُّ في زمنِ عثمانَ، ومن ذلك الشَّعَرُ، ولعله أراد أن يكتُبَ فيه حديثَ أنسٍ المارَّ في الطهارةِ في قولِ ابنِ سيرينَ: عندنا شعرٌ من شعرِ النبيِّ صلعم صارَ إلينا من قِبَلِ أنسٍ، انتهى.
          وزاد العينيُّ: وكان له قضيبٌ من شَوحَطٍ يقالُ له: الممشُوقُ، قال: وكان له عَسيبٌ من جَريدِ النخلِ.